رغم أن فرويد قد وصم أوديب - سواء شئنا أم أبينا - إلى الأبد، جاعلاً إياه علماُ على جريمة قتل الأب واشتهاء الأم، إلا أن هذه لم تكن خطيئة أوديب الحقيقية - ذلك أنه قد فعل أقصى ما يستطيعه ليهرب من قدره الفاجع، بل كانت خطيئته الكبرياء الذي جعله يخرج ليقرر مصيره بيده، ويغير قدره، ويحكم طيبة بثقة وغطرسة من يعتقد أنه قادرٌ على مجابهة الآلهة. خطيئة أوديب تُذكِر بخطيئة مارك أنتوني وبراند، بل وتضرب بعيداً في عمق الإنسانية، إذ أن ما يجعل الإنسان إنساناً حقاً سعيه لتقرير مصيره بنفسه، وهذا ما يدخله في صراعٍ مع الآلهة: بروميثيوس سرق النار من جبل الأوليمب ووهبها للبشر، وسيزيف اعتقد أن بوسعه خداع الآلهة، وتنتالوس سرق طعام الآلهة وشرابهم، وأوديب هرب من قدره. كُلهم عوقب بعقوباتٍ خرافية في وحشيتها وعبثيتها، وكُلهم يرمز في سعيه إلى سعي البشر كلهم، وصراع الإنسان مع القوى العاتية التي تعصف به حتى تكاد تدمره، ومن هُنا تأتي عظمة المأساة الأنسانية.
كما أن سعي الإنسان لتغيير مصيره جزء من متلازمة وجوده، فإن قدرتنا على الكراهية مكونٌ أساسي من مكونات إنسانيتنا ومتلازمات وجودنا. قدرة الكراهية عند الإنسان موجودة مُذ وُجد الإنسان الحديث على الكرة الأرضية قبل عشرة آلاف سنة: فالحروب تمزق شمل الإنسانية منذ بدء التاريخ، والأديان - التي يُفترض أن تعاليمها تُبشر بالمحبة والسلام - تحولت إلى مبررات إضافية للكراهية، فالهندوس والسيخ والزرادشتيون والمجوس يقتلون بعضهم بعضاً لأن كل دينٍ من أديانهم يحتقر الآخر، وعباد مارس يقتلون عباد أودن في أوروبا، وتستولي القبائل الإفريقية - وقبائل الهنود الحمر - على طوطمات بعضها البعض. ثم تأتي الأديان السماوية، فيُسخرها المؤمنون بها لمزيدٍ من الحرب: اليهود لا يعترفون بالأغيار أو الأمم، المسيحيون يستخدمون الدين الجديد للتحكم سياسياً في الدول الأخرى - وعندما لا يتأتى لهم ذلك - فإنهم يكتسحون الأمم الأخرى عسكرياً. قبائل الجرمان - مثلاً - دخلت المسيحية - لأن أحد ملوكها رأى أن رب روما الجديد قادرٌ على جلب النصر في الحرب أكثر من أودن. في اليمن، رعت الدولة الفارسية اليهودية بينما شجعت الدولة الرومانية المسيحية، وكان من نتائج هذا المحرقة البشعة التي نصبها اليهود في اليمن للمسيحيين، والتي نتج عنها احتلالٌ حبشي - روماني لليمن. بل إن الحروب صارت بين الأديان نفسها، فأبناء كل دين يقتلون بعضهم البعض، وكلهم يعتقد أنه الفرقة الناجية في مركبٍ كارثي من طاقة الكراهية البشرية وغريزة الفناء.
تقدم البشرية التكنولوجي، استثمر في القرن العشرين للقتل في حربين عالميتين قتلتا خلقاً كثيراً، ووسمتا العالم بسمت الموت إلى الآن. بعد الحرب العالمية الثانية التي وصلت فيها الكراهية إلى أقصى مداها، نشأت عقدة ذنب عند الأمم الأوروبية تجاه الأقلية اليهودية التي كانت مضطهدة في أوروبا دائماً، الأمر الذي تسبب في تعقيد العالم أكثر بعقدة الذنب الأوروبية وعقدة الاضطهاد اليهودية، ومن ثم التقمص الذي انتقلت إليه الضحية، فالصهيونية حلت محل النازية، والعرب صاروا الهدف الجديد لعقيدة الكراهية التي يعتنقها العالم بأسره.
النازي واليهودي
أول دورٍ لفت أنظار العالم إلى ريف فاينز - وجلب له أول ترشيحات الأوسكار في حياته - كان دور ضابط معسكر الاعتقال النازي آمون غويت في فيلم ستيفن سبيبلبرغ الشهير قائمة شندلر. شكل أداء فاينز للدور علامة فارقة في تاريخ أفلام المحرقة، فلأول مرة لم يُقدم الضابط النازي بشكل مسطح بوصفه سادياً مجنوناً يُعذب اليهود الأبرياء من دون سبب، بل قدمه بصورةٍ إنسانية بوصفه شخصاً حقيقياً يُحب ويكره ويخاف ويتسلط. صحيح أن آمون غويت فاسد - حيث يقبل الرشوة من أوسكار شندلر، وإن كانت هذه الرشوة قد تسببت في إنقاذ حيوات بعض البشر - لكنه يمتثل للعقيدة النازية التي يؤمن بها، فهو كاملٌ لأنه: ذكر، آري، ألماني، كاثوليكي؛ فيما اليهودي أدنى منه تماماً: اليهودي ليس بشراً، ووفقاً لهذه العقيدة فإنه يُشرف على قتل اليهودي. متلازمة غويت مثل متلازمة المتدين الذي يقبل الرشوة: إن الدين يُحرم ذلك، لكنه لا يستطيع الامتناع عن قبول الرشوة، لذلك يمارس مزيداً من العبادات ويستمر في قبول الرشوة آملاً في الوصول إلى توازن، لكن ما يفعله هو أن يُطيح باستقراره النفسي إلى الأبد. غويت يقبل الرشوة، لكنه يحاول أن يُعوض عمله بقتل مزيدٍ من اليهود ليثبت ولاءه للنازية.
فيلم قائمة شندلر فيلم دعائي للصهاينة، ولولا أداء ريف فاينز - من دون مبالغة - لما كان للفيلم قيمة تزيد عن قيمة أي فيلم دعاية نازي - في تجسيد واضح لحالة التقمص الصهيونية للنازية - لكن أداء فاينز جعل الفيلم واحداً من الأفلام التي تستحق المشاهدة، وحفر شخصية حارس معسكر الاعتقال النازي في العقلية الأوروبية لزمنٍ طويل - ولعل من ذلك أن عضواً إيطالياً في البرلمان الأوروبي شبه المستشار الألماني السابق غيرهارد شرويدر بآمون غويت الأمر الذي تسبب في أزمةٍ دولية حينها.
غويت - مثل كل البشر - ضحية وجلاد وعرضة للفساد والضلال، وفوق هذا، فإن مزيج عقيدته النازية وشعوره الشخصي بالذنب وملله من أوشفيتز قد قادته إلى ارتكاب فظائع مثل إطلاق النار من شرفة مسكنه على السجناء اليهود في المعسكر وكأنه يقنص بعض الحيوانات - هُناك شيء في غريزة الصياد يجعل الانتقال من صيد الحيوانات إلى صيد البشر أمراً غير بعيد الاحتمال. مع ذلك، تمر به لحظات شفقة يقمعها بشدة، لأنه السيد في المعسكر، ولأنه يخشى على حياته من الفوهرر. حالة غويت مثالٌ واضح لما يُمكن أن يُصبح عليه الحال عندما يُصبح شخصٌ ما صاحب سلطة مطلقة في مكانٍ ما، بأيديولوجيا عنصرية كالنازية - والواقع أن كُل الأيديولوجيات عنصرية بشكلٍ أو بآخر، لكن بعضها عنصري أكثر من بعضها الآخر.
أداء فاينز جعل كاميرا سبيلبرغ - رغماً عنه - تُغرم به، وتحتفي به على الشاشة بوصفه رمزاً يُفترض به أن يُجسد الشر المُطلق، فإذا به يُجسد هشاشة النفس الإنسانية في مواجهة الشر، وانخداعها بأكاذيب الإيديولوجيا، وقدرتها على الكراهية المدمرة. ولعل هذا الدور، وظهور شخصية غويت بهذا الشكل الذي جعلها الشيء الأبرز - وربما الوحيد - الذي يتذكره كثيرون ممن شاهدوا الفيلم، السبب في أن سبيلبرغ لم يتعاون مع فاينز ثانية في أي فيلمٍ له، رغم إشادته الكبيرة به وبأدائه وموهبته.
أداء فاينز الأيقوني كان كاسحاً بحيث لم يُمكن لأكاديمية الفنون والعلوم الأمريكية تجاهله عند عرض ترشيحات أفضل ممثل في دورٍ مساعد عام 1994، إلا أن الغالبية اليهودية من أعضائها امتنعت عن التصويت له لينال الأوسكار عن دور ضابط نازي سادي، ومنحت الأوسكار ذلك العام لتومي لي جونز عن دوره في فيلم الهارب - ورغم أن تومي لي جونز ممثلٌ جيد، إلا أن أداءه لم يكن عبقرياً كأداء فاينز، وزادت الأكاديمية الأمر سوءاً عندما منحته الدور عن فيلمٍ ليس من أفضل أفلامه، معطية مبرراتٍ واهية لقرارها.
بعد ذلك، تجاهل الممثلون الموهوبون أدوار الممثلين النازيين لفترة استمرت قرابة خمسة عشر عاماً، قبل أن تظهر أفلام مثل: الصبي في المنامة المقلمة الذي يؤدي فيه ديفد ثويلز دور ضابط معسكر اعتقالٍ نازيٍ أيضاً - مع فرق الأداء - والقارئ الذي تؤدي فيه كيت وينسلت دور حارسة أمية لمجموعة من السجينات اليهوديات. الأمر الذي رفع الحظر المفروض على تمثيل الشخصيات النازية قليلاً، وشجع ممثلاً أمريكياً شهيراً هو توم كروز على تجريب دور نازي (صالح) في فيلم الفالكيري.
حظ ريف فاينز السيء مع الأوسكار استمر بعد ذلك، فلم يفز به عن فيلمه الأيقوني - أيضاً - المريض الإنكليزي، ولم يُرشح له بعد 1997 أبداً - رغم سلسلة أدواره التي لا تُنسى في: أوسكار ولوسيندا، سنشاين، سبايدر، البستاني المخلص، في بروج، والدوقة. وحُرم من الترشيح أحياناً لصالح ممثلين أقل كفاءة في أفلامٍ أقل جودة، حتى علق أحد معجبيه في موقع قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت على خبر حرمانه من الترشيح عن الدوقة أو في بروج لصالح روبرت داوني الابن عن فيلم الرعد الاستوائي: "لو كان على الأكاديمية أن تختار بين بوزو المهرج وريف فاينز لاختارت بوزو المهرج من دون تردد".
هناك من يرى أن فاينز حاول استرضاء الأكاديمية بأدائه دور اليهودي في فيلم سنشاين عام 1999، غير أن هذا القول غير دقيق تماماً. ذلك أن للأكاديمية حساباتها المعقدة التي قد تتجاهل الفيلم - وهذا ما حصل - ولأن في الفيلم نازيون يتعامل معهم أحد أبطاله، وشيوعيون يتعامل معهم بطل آخر - وكلا الدورين من تمثيل ريف فاينز. لذلك، من الأرجح أن يكون فاينز يقول الحقيقة، ذلك أنه يقول إن الفيلم تحقيق لحلمه بالعمل مع المخرج المجري إشفان زابو، ولأن السيناريو مثل له تحدياً كبيراً.
في فيلم سنشاين - يُترجم أحياناً ضوء الشمس، لكنه صيغة إنكليزية من اسم الأسرة التي يتحدث عنها الفيلم، زوننشاين - يُمثل فاينز ثلاثة أدوار لثلاثة أجيالٍ من أسرةٍ يهودية في فيلمٍ يروي سيرة المجر في القرن العشرين من الملكية إلى النازية إلى الشيوعية. الجد، إغناز زوننشاين يُغير اسم عائلته اليهودي إلى سورز لإرضاء الملكيين وليصبح قاضياً، لكن الملكيين يُطيحون به عندما يحتاجون إلى كبش فداء - بسبب يهوديته. ابنه، آدم سورز، يتعرض للتنمر في يفاعته ويُوضع حد السيف على عنقه، فيصير بطلاً في المبارزة في حالة تماهٍ مع معذبيه، وفي توقه للتخلص من دونيته، فإنه يُغير دينه إلى الكاثوليكية، ويفوز بالميدالية الذهبية في الأولمبياد لتصبح هذه هويته البديلة. لكن لا شيء يشفع لآدم سورز يهودي الأصل، إذ يوضع في معسكرات الاعتقال النازية ويُعذب، ويُقتل بطريقة بشعة.
يشهد إيفان سورز مقتل أبيه، لكنه لا يتعلم الدرس، فينضم للحزب الشيوعي المجري، ويتحول هو الآخر إلى جلاد عندما يشترك في تعذيب صديقٍ له متهمٍ بالتآمر على الحكومة. لكن مصيره أفضل من مصيره أبيه وجده، حيث يعيش وقتاً طويلاً، يُقرر مع الكف عن محاولة ادعاء هوية ليست له، ويعود إلى اسم عائلته الأصلي: زوننشاين مع نهاية القرن العشرين.
لعل ما يُلخص معضلة الرجال الثلاثة من آل زوننشاين/سورز عبارة إغناز زوننشاين عندما يُسئل: "من تريد أن تُرضي؟" فيرد بانفعالٍ متصاعدٍ: "يجب علّي أن أرضي عائلتي، وأكرم ذكرى جدنا الحاخام! يجب علّي أن أرضي الحكومة والمعارضة! يجب علّي أن أرضي أخانا الذي يريد قلب العالم رأساً على عقب، وأبانا الذي يريد إبقاء العالم كما هو عليه!"
يؤدي فاينز الشخصيات الثلاث بطريقة مختلفة لكل شخصية، فالجد إغناز هادئ ومحافظ يبحث عن التوازن والتراضي، بينما الابن آدم رياضي مندفع متغطرس متماهٍ في هويته المستعارة كمبارز فائز وكعضو في الحزب، والحفيد آدم منظرٌ جبان ينزلق إلى خيانات كثيرة لكنه يحظى بفرصة للنضج والعودة. تشترك الشخصيات الثلاث في انجذابها إلى علاقات حبٍ مدمرة تمثل غريزة تدمير الذات في داخل كلٍ منهم. كلهم يحاول استعارة هوية جديدة، وكلهم يُؤسر في هوية مفروضةٍ عليه.
يُمثل فاينز بأستاذية سعي الشخصيات الثلاث العدمي: إغناز الباحث عن العدالة، آدم الباحث عن التفوق، وإيفان الباحث عن تبرير لتخاذله. كل هذه الشخصيات تمثل طرفاً من الحالة الإنسانية المعقدة التي يمثلها وجودنا المزمن، وكلها تمثل أطرافاً من عقدة النقص اليهودية وعقدة الذنب الأوروبية. كما أنها تحذير بليغ عن عواقب الاستسلام للتنميط المفروض على هوياتٍ معينة، ينبغي أن يحذر منه العرب الذين أُسروا في نمط واحد: العرب الأشرار. حالة إغناز الذي تخلى عن لقبه، وآدم الذي تخلى عن دينه، وإيفان الذي تخلى عن كرامته تدفع المرء للتفكير ملياً في معنى الهوية، وفي الفرق الذي يمكن أن تحدثه خيارات الإنسان.
وبين آمون غويت وآل زوننشاين يقبع مايكل بِرغ في فيلم القارئ. مايكل بيرغ تجسيد لعقدة الذنب الألمانية التي أفرزتها الحقبة النازية، فمايكل - الذي لم يعرف النازية - دُمر بالإرث النازي الذي يُسيطر على ألمانيا ويحكم علاقاتها بالعالم. يلتقي مايكل المراهق بامرأة تكبره سناً بكثير، ويقيم معها علاقة جسدية يتخللها قراءته المستمرة لها بصوتٍ عالٍ. تستمر العلاقة صيفاً واحداً، ثم تختفي المرأة غريبة الأطوار. بعد سنوات، يذهب مايكل مع أستاذه في القانون وطلاب صفه المختارين إلى محاكمات للنازيين السابقين، وهناك يلتقي بامرأته السابقة: هانا شميدت، الحارسة النازية التي تركت مجموعة سجيناتٍ يهوديات يحترقن. تتآمر رفيقاتها لتحميلها القضية وحدها، ويزعمن أن أمراً صادراً بترك السجينات كتبته هي، وترفض هي أن تُنكر أن الخط لها. يعرف مايكل أنها أمية، وأن كونها كذلك يعني ألا علاقة لها بالأمر الصادر، لكنه يُحجم عن الإدلاء بالمعلومة تاركاً إياها تُسجن مدى الحياة.
يقضي مايكل حياته رهين الذنب الذي حملته إياه النازية، فعلاقته مع هانا تعني أنه على علاقة بالنازية وأفعالها، وهذا يُحمله جزءاً من الذنب النازي. كما أن صمته أدى بهانا إلى سجنٍ مؤبد، مما يحمله ذنب سجنها كذلك. معضلة الذنب الألماني أن الشعب كان يعرف بما يحدث، لكنه كان صامتاً، ومعضلته أن كثيرين - مثل هانا الأمية البسيطة - انبهروا بالنازية ونفذوا أوامرها حرفياً من دون أن يُسائلوا ضمائرهم، ومعضلته الأدهى أن القانون قاصر إذا ما حاول محاسبة المتورطين في الأحداث السابقة: ما فعله النازيون لم يكن يُجرمه قانون بلدهم، ولا يُمكن فرض قانون بأثرٍ رجعي، عندها تصبح المحاكمة كُلها لا أخلاقية ويتساوى الجميع في لا أخلاقيتهم: النازيون وقضاتهم.
مايكل بِرغ يختار الانسحاب التام - الذي يجسده ريف فاينز ببراعة - فينسحب تدريجياً من كل شيء، حتى من حياته هو نفسه، ولولا أن له ابنة، لكانت حياته قد انتهت تماماً في دوامة الذنب. بعد طلاقه، يعود مايكل إلى بلدته الأم، وهناك يعيد زيارة أمكنته القديمة، ويُقرر فعل شيء: يقرأ لهانا كل الكتب التي كانت تحبها، وكتباً أخرى، ويسجلها لها - في واحدٍ من أجمل مشاهد الفيلم - ثم يرسل الأشرطة إلى عنوانها في السجن. من قرائته، تعلم هانا نفسها القراءة والكتابة، وتُراسله، لكنه لا يرد على رسائلها أبداً. تنتحر هانا وتجعله منفذ وصيتها، فيذهب للبحث عن الفتاة اليهودية الناجية لينفذ وصيتها، لكن المرأة اليهودية - التي صارت فاحشة الثراء - تصده: "إذا كُنت تبحث عن خاتمة أو تطهير، اذهب إلى المسرح." رافضة مساعدته على الخروج من عاره وذنبه المزدوج، لكنها تفتح أمامه طريقاً آخر - عن غير قصد - إذ يتجه إلى ابنته، ليصارحها بكل شيء، ويخرج نفسه من دوامة الصمت والذنب والعار.
رغم أن فيلم القارئ يدخل ضمن أفلام المحرقة، إلا أن نهايته لن تعجب اليهود كثيراً، إذ يقول لأوروبا بوضوح: إن عليها أن تنفتح على ماضيها النازي بوضوح وصراحة لتخرج من دوامة الذنب، وإن اليهود لن يُقدموا للأوروبيين إلا مزيداً من الذنب والعار.
في أدواره الثلاثة - أو الخمسة، إذا فصلنا أدوار آل زوننشاين - يُقدم ريف فاينز أطرافاً مختلفة من جدلية النازي واليهودي التي لا تزال حيةً إلى الآن، ويستخرج من شخصياته عمقها الإنساني الذي يُجبرنا على إعادة النظر في مسلماتنا الأخلاقية، ويُرينا العالم الموحش والحي لهذه الأرواح المعذبة. فاينز يُجرد مشاهده من مطرقة القاضي ومن سيف الجلاد، ويُجبره على النظر إلى الإنسان في كلٍ منا. لهذا، فإنه ممثلٌ وعرٌ يصعب التعامل معه في الأفلام الدعائية: هو لن يُقدم أبداً شخصية كالتي يُريدها منتج الفيلم، شخصية دعائية مسطحة. ولهذا فإنه ممثلٌ حقيقي.
كما أن سعي الإنسان لتغيير مصيره جزء من متلازمة وجوده، فإن قدرتنا على الكراهية مكونٌ أساسي من مكونات إنسانيتنا ومتلازمات وجودنا. قدرة الكراهية عند الإنسان موجودة مُذ وُجد الإنسان الحديث على الكرة الأرضية قبل عشرة آلاف سنة: فالحروب تمزق شمل الإنسانية منذ بدء التاريخ، والأديان - التي يُفترض أن تعاليمها تُبشر بالمحبة والسلام - تحولت إلى مبررات إضافية للكراهية، فالهندوس والسيخ والزرادشتيون والمجوس يقتلون بعضهم بعضاً لأن كل دينٍ من أديانهم يحتقر الآخر، وعباد مارس يقتلون عباد أودن في أوروبا، وتستولي القبائل الإفريقية - وقبائل الهنود الحمر - على طوطمات بعضها البعض. ثم تأتي الأديان السماوية، فيُسخرها المؤمنون بها لمزيدٍ من الحرب: اليهود لا يعترفون بالأغيار أو الأمم، المسيحيون يستخدمون الدين الجديد للتحكم سياسياً في الدول الأخرى - وعندما لا يتأتى لهم ذلك - فإنهم يكتسحون الأمم الأخرى عسكرياً. قبائل الجرمان - مثلاً - دخلت المسيحية - لأن أحد ملوكها رأى أن رب روما الجديد قادرٌ على جلب النصر في الحرب أكثر من أودن. في اليمن، رعت الدولة الفارسية اليهودية بينما شجعت الدولة الرومانية المسيحية، وكان من نتائج هذا المحرقة البشعة التي نصبها اليهود في اليمن للمسيحيين، والتي نتج عنها احتلالٌ حبشي - روماني لليمن. بل إن الحروب صارت بين الأديان نفسها، فأبناء كل دين يقتلون بعضهم البعض، وكلهم يعتقد أنه الفرقة الناجية في مركبٍ كارثي من طاقة الكراهية البشرية وغريزة الفناء.
تقدم البشرية التكنولوجي، استثمر في القرن العشرين للقتل في حربين عالميتين قتلتا خلقاً كثيراً، ووسمتا العالم بسمت الموت إلى الآن. بعد الحرب العالمية الثانية التي وصلت فيها الكراهية إلى أقصى مداها، نشأت عقدة ذنب عند الأمم الأوروبية تجاه الأقلية اليهودية التي كانت مضطهدة في أوروبا دائماً، الأمر الذي تسبب في تعقيد العالم أكثر بعقدة الذنب الأوروبية وعقدة الاضطهاد اليهودية، ومن ثم التقمص الذي انتقلت إليه الضحية، فالصهيونية حلت محل النازية، والعرب صاروا الهدف الجديد لعقيدة الكراهية التي يعتنقها العالم بأسره.
النازي واليهودي
أول دورٍ لفت أنظار العالم إلى ريف فاينز - وجلب له أول ترشيحات الأوسكار في حياته - كان دور ضابط معسكر الاعتقال النازي آمون غويت في فيلم ستيفن سبيبلبرغ الشهير قائمة شندلر. شكل أداء فاينز للدور علامة فارقة في تاريخ أفلام المحرقة، فلأول مرة لم يُقدم الضابط النازي بشكل مسطح بوصفه سادياً مجنوناً يُعذب اليهود الأبرياء من دون سبب، بل قدمه بصورةٍ إنسانية بوصفه شخصاً حقيقياً يُحب ويكره ويخاف ويتسلط. صحيح أن آمون غويت فاسد - حيث يقبل الرشوة من أوسكار شندلر، وإن كانت هذه الرشوة قد تسببت في إنقاذ حيوات بعض البشر - لكنه يمتثل للعقيدة النازية التي يؤمن بها، فهو كاملٌ لأنه: ذكر، آري، ألماني، كاثوليكي؛ فيما اليهودي أدنى منه تماماً: اليهودي ليس بشراً، ووفقاً لهذه العقيدة فإنه يُشرف على قتل اليهودي. متلازمة غويت مثل متلازمة المتدين الذي يقبل الرشوة: إن الدين يُحرم ذلك، لكنه لا يستطيع الامتناع عن قبول الرشوة، لذلك يمارس مزيداً من العبادات ويستمر في قبول الرشوة آملاً في الوصول إلى توازن، لكن ما يفعله هو أن يُطيح باستقراره النفسي إلى الأبد. غويت يقبل الرشوة، لكنه يحاول أن يُعوض عمله بقتل مزيدٍ من اليهود ليثبت ولاءه للنازية.
فيلم قائمة شندلر فيلم دعائي للصهاينة، ولولا أداء ريف فاينز - من دون مبالغة - لما كان للفيلم قيمة تزيد عن قيمة أي فيلم دعاية نازي - في تجسيد واضح لحالة التقمص الصهيونية للنازية - لكن أداء فاينز جعل الفيلم واحداً من الأفلام التي تستحق المشاهدة، وحفر شخصية حارس معسكر الاعتقال النازي في العقلية الأوروبية لزمنٍ طويل - ولعل من ذلك أن عضواً إيطالياً في البرلمان الأوروبي شبه المستشار الألماني السابق غيرهارد شرويدر بآمون غويت الأمر الذي تسبب في أزمةٍ دولية حينها.
غويت - مثل كل البشر - ضحية وجلاد وعرضة للفساد والضلال، وفوق هذا، فإن مزيج عقيدته النازية وشعوره الشخصي بالذنب وملله من أوشفيتز قد قادته إلى ارتكاب فظائع مثل إطلاق النار من شرفة مسكنه على السجناء اليهود في المعسكر وكأنه يقنص بعض الحيوانات - هُناك شيء في غريزة الصياد يجعل الانتقال من صيد الحيوانات إلى صيد البشر أمراً غير بعيد الاحتمال. مع ذلك، تمر به لحظات شفقة يقمعها بشدة، لأنه السيد في المعسكر، ولأنه يخشى على حياته من الفوهرر. حالة غويت مثالٌ واضح لما يُمكن أن يُصبح عليه الحال عندما يُصبح شخصٌ ما صاحب سلطة مطلقة في مكانٍ ما، بأيديولوجيا عنصرية كالنازية - والواقع أن كُل الأيديولوجيات عنصرية بشكلٍ أو بآخر، لكن بعضها عنصري أكثر من بعضها الآخر.
أداء فاينز جعل كاميرا سبيلبرغ - رغماً عنه - تُغرم به، وتحتفي به على الشاشة بوصفه رمزاً يُفترض به أن يُجسد الشر المُطلق، فإذا به يُجسد هشاشة النفس الإنسانية في مواجهة الشر، وانخداعها بأكاذيب الإيديولوجيا، وقدرتها على الكراهية المدمرة. ولعل هذا الدور، وظهور شخصية غويت بهذا الشكل الذي جعلها الشيء الأبرز - وربما الوحيد - الذي يتذكره كثيرون ممن شاهدوا الفيلم، السبب في أن سبيلبرغ لم يتعاون مع فاينز ثانية في أي فيلمٍ له، رغم إشادته الكبيرة به وبأدائه وموهبته.
أداء فاينز الأيقوني كان كاسحاً بحيث لم يُمكن لأكاديمية الفنون والعلوم الأمريكية تجاهله عند عرض ترشيحات أفضل ممثل في دورٍ مساعد عام 1994، إلا أن الغالبية اليهودية من أعضائها امتنعت عن التصويت له لينال الأوسكار عن دور ضابط نازي سادي، ومنحت الأوسكار ذلك العام لتومي لي جونز عن دوره في فيلم الهارب - ورغم أن تومي لي جونز ممثلٌ جيد، إلا أن أداءه لم يكن عبقرياً كأداء فاينز، وزادت الأكاديمية الأمر سوءاً عندما منحته الدور عن فيلمٍ ليس من أفضل أفلامه، معطية مبرراتٍ واهية لقرارها.
بعد ذلك، تجاهل الممثلون الموهوبون أدوار الممثلين النازيين لفترة استمرت قرابة خمسة عشر عاماً، قبل أن تظهر أفلام مثل: الصبي في المنامة المقلمة الذي يؤدي فيه ديفد ثويلز دور ضابط معسكر اعتقالٍ نازيٍ أيضاً - مع فرق الأداء - والقارئ الذي تؤدي فيه كيت وينسلت دور حارسة أمية لمجموعة من السجينات اليهوديات. الأمر الذي رفع الحظر المفروض على تمثيل الشخصيات النازية قليلاً، وشجع ممثلاً أمريكياً شهيراً هو توم كروز على تجريب دور نازي (صالح) في فيلم الفالكيري.
حظ ريف فاينز السيء مع الأوسكار استمر بعد ذلك، فلم يفز به عن فيلمه الأيقوني - أيضاً - المريض الإنكليزي، ولم يُرشح له بعد 1997 أبداً - رغم سلسلة أدواره التي لا تُنسى في: أوسكار ولوسيندا، سنشاين، سبايدر، البستاني المخلص، في بروج، والدوقة. وحُرم من الترشيح أحياناً لصالح ممثلين أقل كفاءة في أفلامٍ أقل جودة، حتى علق أحد معجبيه في موقع قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت على خبر حرمانه من الترشيح عن الدوقة أو في بروج لصالح روبرت داوني الابن عن فيلم الرعد الاستوائي: "لو كان على الأكاديمية أن تختار بين بوزو المهرج وريف فاينز لاختارت بوزو المهرج من دون تردد".
هناك من يرى أن فاينز حاول استرضاء الأكاديمية بأدائه دور اليهودي في فيلم سنشاين عام 1999، غير أن هذا القول غير دقيق تماماً. ذلك أن للأكاديمية حساباتها المعقدة التي قد تتجاهل الفيلم - وهذا ما حصل - ولأن في الفيلم نازيون يتعامل معهم أحد أبطاله، وشيوعيون يتعامل معهم بطل آخر - وكلا الدورين من تمثيل ريف فاينز. لذلك، من الأرجح أن يكون فاينز يقول الحقيقة، ذلك أنه يقول إن الفيلم تحقيق لحلمه بالعمل مع المخرج المجري إشفان زابو، ولأن السيناريو مثل له تحدياً كبيراً.
في فيلم سنشاين - يُترجم أحياناً ضوء الشمس، لكنه صيغة إنكليزية من اسم الأسرة التي يتحدث عنها الفيلم، زوننشاين - يُمثل فاينز ثلاثة أدوار لثلاثة أجيالٍ من أسرةٍ يهودية في فيلمٍ يروي سيرة المجر في القرن العشرين من الملكية إلى النازية إلى الشيوعية. الجد، إغناز زوننشاين يُغير اسم عائلته اليهودي إلى سورز لإرضاء الملكيين وليصبح قاضياً، لكن الملكيين يُطيحون به عندما يحتاجون إلى كبش فداء - بسبب يهوديته. ابنه، آدم سورز، يتعرض للتنمر في يفاعته ويُوضع حد السيف على عنقه، فيصير بطلاً في المبارزة في حالة تماهٍ مع معذبيه، وفي توقه للتخلص من دونيته، فإنه يُغير دينه إلى الكاثوليكية، ويفوز بالميدالية الذهبية في الأولمبياد لتصبح هذه هويته البديلة. لكن لا شيء يشفع لآدم سورز يهودي الأصل، إذ يوضع في معسكرات الاعتقال النازية ويُعذب، ويُقتل بطريقة بشعة.
يشهد إيفان سورز مقتل أبيه، لكنه لا يتعلم الدرس، فينضم للحزب الشيوعي المجري، ويتحول هو الآخر إلى جلاد عندما يشترك في تعذيب صديقٍ له متهمٍ بالتآمر على الحكومة. لكن مصيره أفضل من مصيره أبيه وجده، حيث يعيش وقتاً طويلاً، يُقرر مع الكف عن محاولة ادعاء هوية ليست له، ويعود إلى اسم عائلته الأصلي: زوننشاين مع نهاية القرن العشرين.
لعل ما يُلخص معضلة الرجال الثلاثة من آل زوننشاين/سورز عبارة إغناز زوننشاين عندما يُسئل: "من تريد أن تُرضي؟" فيرد بانفعالٍ متصاعدٍ: "يجب علّي أن أرضي عائلتي، وأكرم ذكرى جدنا الحاخام! يجب علّي أن أرضي الحكومة والمعارضة! يجب علّي أن أرضي أخانا الذي يريد قلب العالم رأساً على عقب، وأبانا الذي يريد إبقاء العالم كما هو عليه!"
يؤدي فاينز الشخصيات الثلاث بطريقة مختلفة لكل شخصية، فالجد إغناز هادئ ومحافظ يبحث عن التوازن والتراضي، بينما الابن آدم رياضي مندفع متغطرس متماهٍ في هويته المستعارة كمبارز فائز وكعضو في الحزب، والحفيد آدم منظرٌ جبان ينزلق إلى خيانات كثيرة لكنه يحظى بفرصة للنضج والعودة. تشترك الشخصيات الثلاث في انجذابها إلى علاقات حبٍ مدمرة تمثل غريزة تدمير الذات في داخل كلٍ منهم. كلهم يحاول استعارة هوية جديدة، وكلهم يُؤسر في هوية مفروضةٍ عليه.
يُمثل فاينز بأستاذية سعي الشخصيات الثلاث العدمي: إغناز الباحث عن العدالة، آدم الباحث عن التفوق، وإيفان الباحث عن تبرير لتخاذله. كل هذه الشخصيات تمثل طرفاً من الحالة الإنسانية المعقدة التي يمثلها وجودنا المزمن، وكلها تمثل أطرافاً من عقدة النقص اليهودية وعقدة الذنب الأوروبية. كما أنها تحذير بليغ عن عواقب الاستسلام للتنميط المفروض على هوياتٍ معينة، ينبغي أن يحذر منه العرب الذين أُسروا في نمط واحد: العرب الأشرار. حالة إغناز الذي تخلى عن لقبه، وآدم الذي تخلى عن دينه، وإيفان الذي تخلى عن كرامته تدفع المرء للتفكير ملياً في معنى الهوية، وفي الفرق الذي يمكن أن تحدثه خيارات الإنسان.
وبين آمون غويت وآل زوننشاين يقبع مايكل بِرغ في فيلم القارئ. مايكل بيرغ تجسيد لعقدة الذنب الألمانية التي أفرزتها الحقبة النازية، فمايكل - الذي لم يعرف النازية - دُمر بالإرث النازي الذي يُسيطر على ألمانيا ويحكم علاقاتها بالعالم. يلتقي مايكل المراهق بامرأة تكبره سناً بكثير، ويقيم معها علاقة جسدية يتخللها قراءته المستمرة لها بصوتٍ عالٍ. تستمر العلاقة صيفاً واحداً، ثم تختفي المرأة غريبة الأطوار. بعد سنوات، يذهب مايكل مع أستاذه في القانون وطلاب صفه المختارين إلى محاكمات للنازيين السابقين، وهناك يلتقي بامرأته السابقة: هانا شميدت، الحارسة النازية التي تركت مجموعة سجيناتٍ يهوديات يحترقن. تتآمر رفيقاتها لتحميلها القضية وحدها، ويزعمن أن أمراً صادراً بترك السجينات كتبته هي، وترفض هي أن تُنكر أن الخط لها. يعرف مايكل أنها أمية، وأن كونها كذلك يعني ألا علاقة لها بالأمر الصادر، لكنه يُحجم عن الإدلاء بالمعلومة تاركاً إياها تُسجن مدى الحياة.
يقضي مايكل حياته رهين الذنب الذي حملته إياه النازية، فعلاقته مع هانا تعني أنه على علاقة بالنازية وأفعالها، وهذا يُحمله جزءاً من الذنب النازي. كما أن صمته أدى بهانا إلى سجنٍ مؤبد، مما يحمله ذنب سجنها كذلك. معضلة الذنب الألماني أن الشعب كان يعرف بما يحدث، لكنه كان صامتاً، ومعضلته أن كثيرين - مثل هانا الأمية البسيطة - انبهروا بالنازية ونفذوا أوامرها حرفياً من دون أن يُسائلوا ضمائرهم، ومعضلته الأدهى أن القانون قاصر إذا ما حاول محاسبة المتورطين في الأحداث السابقة: ما فعله النازيون لم يكن يُجرمه قانون بلدهم، ولا يُمكن فرض قانون بأثرٍ رجعي، عندها تصبح المحاكمة كُلها لا أخلاقية ويتساوى الجميع في لا أخلاقيتهم: النازيون وقضاتهم.
مايكل بِرغ يختار الانسحاب التام - الذي يجسده ريف فاينز ببراعة - فينسحب تدريجياً من كل شيء، حتى من حياته هو نفسه، ولولا أن له ابنة، لكانت حياته قد انتهت تماماً في دوامة الذنب. بعد طلاقه، يعود مايكل إلى بلدته الأم، وهناك يعيد زيارة أمكنته القديمة، ويُقرر فعل شيء: يقرأ لهانا كل الكتب التي كانت تحبها، وكتباً أخرى، ويسجلها لها - في واحدٍ من أجمل مشاهد الفيلم - ثم يرسل الأشرطة إلى عنوانها في السجن. من قرائته، تعلم هانا نفسها القراءة والكتابة، وتُراسله، لكنه لا يرد على رسائلها أبداً. تنتحر هانا وتجعله منفذ وصيتها، فيذهب للبحث عن الفتاة اليهودية الناجية لينفذ وصيتها، لكن المرأة اليهودية - التي صارت فاحشة الثراء - تصده: "إذا كُنت تبحث عن خاتمة أو تطهير، اذهب إلى المسرح." رافضة مساعدته على الخروج من عاره وذنبه المزدوج، لكنها تفتح أمامه طريقاً آخر - عن غير قصد - إذ يتجه إلى ابنته، ليصارحها بكل شيء، ويخرج نفسه من دوامة الصمت والذنب والعار.
رغم أن فيلم القارئ يدخل ضمن أفلام المحرقة، إلا أن نهايته لن تعجب اليهود كثيراً، إذ يقول لأوروبا بوضوح: إن عليها أن تنفتح على ماضيها النازي بوضوح وصراحة لتخرج من دوامة الذنب، وإن اليهود لن يُقدموا للأوروبيين إلا مزيداً من الذنب والعار.
في أدواره الثلاثة - أو الخمسة، إذا فصلنا أدوار آل زوننشاين - يُقدم ريف فاينز أطرافاً مختلفة من جدلية النازي واليهودي التي لا تزال حيةً إلى الآن، ويستخرج من شخصياته عمقها الإنساني الذي يُجبرنا على إعادة النظر في مسلماتنا الأخلاقية، ويُرينا العالم الموحش والحي لهذه الأرواح المعذبة. فاينز يُجرد مشاهده من مطرقة القاضي ومن سيف الجلاد، ويُجبره على النظر إلى الإنسان في كلٍ منا. لهذا، فإنه ممثلٌ وعرٌ يصعب التعامل معه في الأفلام الدعائية: هو لن يُقدم أبداً شخصية كالتي يُريدها منتج الفيلم، شخصية دعائية مسطحة. ولهذا فإنه ممثلٌ حقيقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق