23 مارس 2010

عوفل

مطلع هذا الشهر كان يوم اللغة العربية الذي احتُفِل به في كُل الدول العربية - تقريباً - بندواتٍ عن اللغة العربية، واحتفالاتٍ وتجمعات. قبل عقد ندوةٍ عن اللغة العربية، شاهدت في التلفاز برنامجاً خفيف الدم على إحدى قنوات اليمن الفضائية جعل من قضية فرض اللغة العربية الفُصحى على الشعب بالقانون محور حلقته. يُقدم البرنامج برنامجاً داخل البرنامج، وكأن هُناكَ برنامجاً يُغطي ردود الفعل الشعبية على فرض قانون اللغة العربية، فنرى مراسلي البرنامج الافتراضي ينزلون إلى الأسواق ليتحدثوا مع باعة الخضار والفواكه الذين أُجبِروا على استخدام اللغة العربية الفصحى في الترويج لبضائعهم ويذهبون لتسجيل لقاءات مع طلاب المنازل، والشبان في الشوارع، وحتى في البيوت. وبحركة ذكية وطريفة من المخرج، يُقدم لنا ا، لبرنامج الوضع اليومي للناس، فنرى زوجين يتشاجران بلهجتيهما المحليتين، وفجأة ينزل عليهما القرار كلكمة قاضية، فيسقطان، ومن ثم يضطران للنهوض والشجار بالعربية الفصحى، وعندما لا تُسعف اللغة الزوج، يحاول خنق زوجته! ويُقدم لنا حواراتٍ يومية معتادة، ثم يأتي القانون كصاعقة سماوية توقف الحال. كذلك، يُتيح البرنامج المجال لطالبةٍ من مدارس الصفوة لتشتكي من امتحان (العوفل) الذي صار عليها النجاح فيه لتحصل على شهادة جامعية، بالإضافة إلى امتحان التوفل الأمريكي. تقول الطالبة كلاماً منطقياً مفاده: "لماذا علمتمونا منذ البداية أن العربية لغة لا تُناسب العصر؟ وجعلتمونا نتنافس في المدارس الأمريكية والأوروبية منذ الطفولة؟ لا حق لكم الآن في إجبارنا على تعلم اللغة العربية بعد أن بلغنا من العمر مبلغاً يجعل تعلمها عسيراً عُسرَ تعلم الصينية بوصفها لغة رابعة!"
يطرح البرنامج أفكاراً هامة، ففكرة الخنق بديلاً عن العجز اللغوي وحدها حكاية. رُبما يخلق فرض استخدام الفُصحى في التعاملات اليومية حالة من العُسر اللغوي تؤدي إلى استبدال اللغة بوصفها وسيلة تواصل إلى وسائل أخرى في التواصل. الفكرة شعرية! خنق زوجته لأنه لم يعد قادراً على الكلام معها، لأن اللغة عجزت، ومعها عجز هو، وصار القتل الفعل الوحيد المُمكن للخروج من حالة العجز التي فرضها موت اللغة!
امتحان العوفل غمزةٌ في قناة من يحاولون فرض امتحان في اللغة العربية شرطاً لدخول التعليم الجامعي - أو حتى اجتيازٍ المرحلة الثانوية - بوصفه معادلاً لامتحان التوفل الأمريكي. توفل بالإنكليزية: TOEFL، كلمة مركبة من الأحرف الأولى لعبارة: Test of English as a Foreign Language، مما يعني أن عوفل ستعني شيئاً من قبيل: Arabic of English as a Foreign Language، وهذا كلامٌ مُركَبٌ غير منطقي، من قبيل الكلام الذي يقوله بائعو الامتحانات هؤلاء.
حضرت بعد البرنامج ندوةً للغة العربية أَمها جمعٌ غفيرٌ من أساتذة الجامعة الذين لا يُكمل بعضهم جملة عربية سليمة إعرابياً - حتى أن الجمهور انفعل آخر الأمر، وصار يُصحح للمتحدثين بشكلٍ جماعي، من دون سابق تنسيق - وجمعٌ من موظفي المنظمة العربية للثقافة والعلوم، وكثيرٌ من المثقفين. وفي الندوة تجلت فاشية المثقفين الذين يطالبون السلطات بإصدار قانونٍ لغوي يُحرِمُ الحديث بغير الفُصحى، ويُحرم الكتابة باللغات الأجنبية على لافتات المحلات التجارية، ويُجبر كل طالبي التوظيف على الخضوع إلى اختبارِ كفاءة في اللغة العربية، ويربط الترقيات والعلاوات بإتقان العربية. كُل هذه تحركاتٌ فاشية، وكأن المواطن يحتاج إلى مصدر رعبٌ جديد، وتهديد جديد له في رزقه ومعيشته! بهذه الطريقة، يخون المثقفون - غير المستنيرين - الشعب، ويتحولون إلى أداةٍ قمعية جديدة. خصوصاً وأنهم لا يتقنون العربية، وكُلُ ما لديهم حصيلة عجيبة من الإحصاءات والمقارنات: الإنكليزية في حالة أفضل من العربية مع أن 40% من كلماتها عربية - ولا أدري مصدر هذه النسبة، ينبغي أن نتمثل سياسة فرنسا اللغوية - مع أن سياسات فرنسا اللغوية تدخل في باب الإرهاب الثقافي، ينبغي توحيد منهج اللغة العربية في كُل الدول العربية! ينبغي إضافة كلمة "العربية" إلى أسماء كُل الدول العربية - ويبدو لي أن أصحاب هذا الاقتراح على علاقة بالقناة الشهيرة.
لو كلف أحدٌ خاطره عناء التفكر في المسألة اللغوية حقاً، لوجد أن العرب لم تجتمع يوماً على قياسٍ واحدٍ للعربية، وأوضح مثالٌ على ذلك المدرستان الكوفية والبصرية في النحو، مما ينقض فرض المنهج الموحد على الدول العربية جميعها. الاختلافات اللغوية شائعة في كُل لغات العالم، فليست إنكليزية الولايات المتحدة الأمريكية ذات إنكليزية المملكة المتحدة ذات إنكليزية أستراليا ذات إنكليزية الهند. لكُل واحدة من هذه الدول نسختها الخاصة عن الإنكليزية - ولا تحمل أياً منها كلمة "الإنكليزية" في أسماءها، فلا يوجد شيء اسمه "المملكة المتحدة الإنكليزية" على حدِ علمي. فرنسية فرنسا ليست فرنسية بلجيكا، وليست ألمانية ألمانيا الألمانية التي يتحدثونها في سويسرا مثلاً. وفي عملية التطور التاريخي للغات، تكاملت أنسجة اللغات، بحيث يصعب أن يفصل أحدهم نسبةً معينة، ويقول إن خمسين في المائة من الإنكليزية فرنسي مثلاً. هذا الكلام من النوعية التي ينبغي أن يكون المستمع إليها عاقلاً.
المشكلة اللغوية مشكلةٌ شائعةٌ في كُل لغات العالم، فمن يدعون أن طُلاب اليمن - مثلاً - يُجيدون الإنكليزية أكثر من العربية، يجهلون حقاً المذابح التي يرتكبها خريجو أكاديميات الصفوة في حق اللغة الإنكليزية - التي لا يتحدثون سواها - بحيث يصير كلامهم معرضاً حيوياً لكل أنواع الانتهاكات المرتكبة بحق اللغة. المسألة ليست في الطلاب العرب، وإنما في كُل طلاب العالم، بحيث يظهر أن إنكليزية جديدة ستتطور من هذه المذابح بحقها، أو على الأقل لغة كريولية وسيطة، شبيهة باللغات الكريولية في جزر الكاريبي مثلاً.
الإنكليزية نفسها ليست لغةً على قياسٍ موحد، فإنكليزية الكُتُبِ تصلح في أوكسفورد، لكنها لا تصلح في الشارع حيث خليطٌ من تنويعات الإنكليزية يكاد يصمُ السامع، ويُشعره بأن كُلَ فردٍ يتحدث لغةً مختلفة. وغير ذلك، فالإنكليزية لغةٌ طبقية، إذ أن طبقة المرء تتحدد من لغته وطريقة نطقه. الأمر الذي لا يشيع في العربية بهذا الشكل القاطع.
مشكلة اللغة العربية في المجمعات اللغوية الخاملة، وفي الأهواء التسلطية للمثقفين الذين لا يتسع فهمهم للمسألة اللغوية، وفي سوق العمل العالمي الذي يقتل كل اللغات اليوم، لا العربية فحسب. بينما ما تحتاجه العربية فعلاً تأهيلٌ صحيح لمعلميها في المدارس الابتدائية والثانوية، وتحسينٌ لمناهج تدريسها، ونشرٌ للمحتوى المعرفي بالعربية. مشكلتنا أننا لا نُنتج محتوى ثقافياً قابلاً للتوزيع عالمياً، لذلك تبقى لغتنا محصورة. فكم أفلام الكارتون العربية؟ وكم تُنتج السينما العربية من أفلام؟ من يُشاهدها؟ كم نسبة محتوى الشبكة العالمية المكتوب بالعربية؟ كُل هذه أمورٌ تؤخر انتشار اللغة العربية، كما يفعل مثقفوها الفاشيون الذين يستخدمونها أداة تعذيب.
واحدٌ من أهم المشاريع الناشرة للمحتوى المعرفي الحُر بالعربية النسخة العربية من موسوعة ويكيبيديا العالمية. أعتقد أن المشاركة في تنميتها أهمُ بكثيرٍ من حضور أي ندوة جعجعة. الموسوعة مفتوحة للجميع، وفي كُل مجالات المعرفة، ولا تُشكِل نادياً خاصاً من المثقفين الفاشيين - قد يكون هناك توجهات فاشية لدى بعض محرريها، لكن أساس المشروع قائم على مبدأ اللا سلطوية، أي أن الكُل متساوون، مما يقمع الميول الفاشية ويمنعها من الازدهار.
وقديماً تساءل ريكس هاريسون: "لماذا لا يتعلم الإنكليز الكلام؟"

هناك تعليق واحد:

  1. بابل الجديدة التي هي (شبكة الويب) لها تأثير بابل القديمة ذاته، ألاحظ أن أغلب المستخدمين العرب على الانترنت حالياً لا يجيدون أي لغة، عربية كسيحة (نحواً واملاء) وانجليزية مضحكة، وحتى أني لا أستثني نفسي، يبدو لي نوعاً من الوهم والمبالغة حين أتهم الويب بهذا الاتهام الفظيع، لكنه، خطيئة الويب هذه واضحة أكثر شيء مع المستخدمين العرب، وربما هي كذلك مع المستخدمين الفرس، لا أستثني كل السام فونيين (المتكلمين بأي لغة سامية)، لكني أستبعد معاناتهم جميعاً لأن لم تعد هنالك أمّة سامية أكثر كسلاً من العرب في المسائل الالكترونية.
    مجدداً، لماذا؟
    للأسف أجد التعاطي الالكتروني مع اللغة سهلا وحرّا، أكثر تحرراً مما كنّا نمارسه من كتابة ورقية، حيث، في الكتابة الورقية، سواء عند تبادل الرسائل مع الأصدقاء أو حتى الكتابة الورقية الموجّهة للنشر الورقي الصحافي، كانت مقيّدة وداخل منظومة المحررين والمصححين اللغويين الـ(أرثوذوكس)، بينما لا يبدو لي أن مستخدمي الويب داخل أي منظومة تقليدية من التصحيح اللغوي، إلا اذا لو اعتبرنا مصحح (مايكروسوفت وورد) هكذا، لكن مجدداً، مايكروسوفت في كل نسخها الحديثة من (الأوفيس) تبدي تجاهلاً مقصوداً للغة العربية من الناحية التنسيقية، يجعل الكتابة بالعربية داخل أوفيس عذاباً قروسطياً.

    مجدداً، شهد التعاطي الالكتروني مع اللغة العربية تساهلاً متزايداً، بشكل أسفر عن ميلاد أخطاء نحوية واملائية معينة خاصة بالحقبة الالكترونية لم تك لترتكب في حقبة ما قبل الانترنت، مثلاً، استسهال كتابة أفعال الأمر بالهمزة فقط لأن مفتاح (شيفت) يغري بالأمر، كذلك مفتاح (شيفت) يغري بكتابة (شيء) = (شئ).

    ويبدو لي أن الظاهرة البابلية الانترنتية صبغت التعاطي اللغوي الورقي، فتظهر الأخطاء الناجمة عن (هندسة لوحة المفاتيح) في ورقة الجريدة المطبوعة.

    بالطبع لا ننسى الطامة، الفرانكو-آراب، التي لن أسهب في شأنها لأني أجد الأمر مملاً. لكني لا أخفي دهشتي حين أجد (بيئة بابلية)، أعني، كوزوموبوليتانية كشبكة الويب تسفر عن ضحايا بلبلة تشبه البلبلة البابلية. لأني : لا أستطيع اطلاقاً احتمال القراءة لشخص يكتب بالفرانكو-آراب، أنا لا أفهم ابن جلدتي الذي يتحدث لغتي.
    يبدو أن أسطورة البرج كانت استعارة/احالة عميقة.


    أعتذر عن التطرق لأمور جانبية قليلاً.

    ردحذف