فيلم إد وود (1994) الفيلم الثاني في سلسلة الأفلام التي تعاون فيها الثنائي تِم بِرتُن وجوني ديب، وأكثر أفلام الاثنين اقتراباً من جوهر الإنسانية الرقيق والهش. قليلة الأفلام التي تصور الفرح والألم والبهجة والشك والتفاؤل والفن مثلما يفعل فيلم إد وود الذي كرم بهِ بِرتُن المُخرج الذي يُعتقد أنه أسوأ مُخرج على الإطلاق.
يعتقد بعض النقاد أن فيلم إدوارد سيزرهاندز (1990) - أول عملٍ مشترك بين بِرتُن وديب - الفيلم الذي يُقدم فيه بِرتُن شهادته الفنية بوصفه مخرجاً، وشهادته الإنسانية على الحياة بأوضح صورة، غير أن فيلم إد وود شخصي أكثر من إدوارد سيزرهاندز، وأكثر صدقاً وقُرباً إلى القلب. كُل شخصيات الفيلم شخصياتٌ واقعية - على خلاف شخصيات إدوارد سيزرهاندز - ومع ذلك، فإنها تُمثِل جو الغرابة والطرافة الذي يُميز بِرتُن، فإدوارد د. وود الابن يجمع حوله المنبوذين والمختلفين والموصومين مثلما يفعل تِم بِرتُن مع أطفاله الذين لفظهم المجتمع. ورغم أن بِرتُن مُخرجٌ ناجح يحظى بتمويل لا بأس به ليصنع أفلامه الناجحة، إلا أن جزءاً منه - ومن أي مُخرجٍ - يستطيع أن يجدَ نفسه في إد وود الذي يُشبه نفسه بأورسون ويلز، ويتحدث إليه ويلز نفسه عن همٍ مشترك بينهما - وبين كُل المخرجين: المساومة على رؤية المخرج الفنية لإرضاء المُمولين.
اختار بِرتُن تصوير فيلمه بالأبيض والأسود ليُحافظ على جو الفترة التي يتحدث عنها الفيلم، وليُعطي انطباعاً بالتقادم والانتماء إلى عالمٍ آخر يختلف عن العالم الحالي. اختيارُ بِرتُن للأبيض والأسود كان خياراً كارثياً في شباك التذاكر، لكنه كان خياراً موفقاً فنياً، إذ ركز على الأبيض والأسود، الظل والنور، ودرجات الألوان الوسطى بينهما في فيلمه. مُنذُ افتتاحيته - التي صمُمت لتستوحي افتتاحيات أفلام إد وود، خصوصاً الخطة التاسعة من الفضاء الخارجي- والفيلم يُقدم احتفاء بالسذاجة والفطرية. لا توجد خدعٌ متطورة في أفلام إد وود، ولا محاولات لإيهام المتلقي بأن ما يجري على الشاشة حقيقي. لا ينطلق وود من فلسفة تقتضي مشاركة المتلقي في الخداع، لكن من فكرة أن الرؤية العامة التي تحكم العمل ما يُهِم، والباقي مُجرد تفاصيل يُمكن التغاضي عنها. عندما يعترض ممولو الخطة التاسعة من الفضاء الخارجي على وضوح الديكور وبدائية الأخطاء التي يرتكبها وود، يرد عليهم معترضاً: "ألم تسمعوا بالتعطيل الإرادي لعدم التصديق أبداً؟" لا تهم تفاصيل المشهد، طالما أنه يروي قصةً معينة.
مقدمة الفيلم التي يُلقيها كريزول (جيفري جونز) من داخل تابوت تبدو هزلية لأول وهلة، إذ يسأل المشاهدين: "هل يُمكن لقلبك تحمل الحقائق الصادمة لقصة إدوارد د. وود الابن الحقيقية؟" - في إشارة لمقدمات أفلام إد وود التي يُفترض أنها مرعبة - لكن الهزل يتلاشى مع مرور أحداث الفيلم، فأحداث قصةُ إدوارد د. وود الابن تحتاج فعلاً إلى قلبٍ شجاع ليتحمل عمق الفيلم الإنساني، والمرآة التي يحملها في وجوه مشاهديه، لا ليروا أشكالهم، بل ليروا دواخلهم. يُرينا الفيلم ببساطة إد وود الإنسان، لا المخرج الرجيم الذي دمغه نقادُ السينما بوصمة أسوأ مخرج في التاريخ، ووُجِدت بعد موته طائفة تتبعه وتتبع ممثليه. لا يُدافع الفيلم عن أفلام وود، ولا يحاول أن يُظهِر أنه كان مُخرجاً رائعاً أُسيء فهمه، لكنه يُرينا العالم من خلال عينيه المنبهرتين المتفائلتين.
فيلم إد وود يُعيد النظر في كثيرٍ من الخرافات الفنية؛ هُناك اعتقادٌ شائع يرى أن الفنان العظيم ينبغي أن يكون طفلاً منبهراً مندهشاً، وإد وود كان طفلاً مندهشاً منبهراً متسع العينين لكنه لم يكن فناناً عظيماً. كانت عنده رؤية فنية، وكان مولعاً بفنه حقاً، ومثابراً، لكنه مع ذلك لم يتمكن من صُنعِ أفلامٍ جيدة. تعرض إلى النبذ الذي تعرض له جيمس كاميرون وتِم بِرتُن، لكنه لم يصنع تيتانك وآفاتار ولم يحقق أعلى المبيعات في شباك التذاكر، كما أنه لم يحول شغفه بالأشياء الغريبة إلى مصدرِ قوةٍ له كما فعل حامي المنبوذين الآخر تِم بِرتُن. إد وود كان صاحب رؤية - مثل الفنانين العظماء - لكنه لم يكن صاحب حرفة، لذلك فشل، فالرؤية لا تصنع عملاً فنياً وحدها. يدفع الفيلم المشاهدين للتساؤل عمّا يعنيه الفنُ حقيقة، وعن واقعية المقاييس الفنية المفروضة على الأعمال الفنية.
مثل بقية أطفال بِرتُن، إد وود طفلٌ منبوذ، لكنه طفلٌ يحمي بقية الأطفال المنبوذين الآخرين. يعمل إد وود مع أصدقائه دائماً - مثل تِم بِرتُن - ويقاوم نظام الإستوديوهات بالنجم الوحيد الذي يمكنه إقناعه بالعمل معه: بيلا لوغوسي. ورغم أن هوليوود قد أدارت ظهرها لبيلا لوغوسي منذ زمنٍ، إلا أن إد وود يؤمن به، ويحاول أن يجد له عملاً فيها باستمرار. كما أنه يتمسك بفريقه البائس، ويهرع لمساعدة فامبايرا عندما تفقد عملها، ويُقنع تور جونسون باحتراف التمثيل.
صداقة إد وود وبيلا لوغوسي من أجملِ الصداقات التي يُصورها الفن، ومن المقومات التي تجعل فيلم إد وود ما هو عليه حقاً. إد وود مخرج أفلامٍ شاب يُريد أن يُثبت نفسه في المدينة التي لا ترحم، منبهرٌ ومتفائل دوماً. وبيلا لوغوسي نجمٌ هجرته الأضواء وهجرته هوليوود يُخطط للموت عمّا قريب هرباً من شيخوخة لا ترحم يستهلكها المرض والفقر والإدمان. يلتقيان صدفة بعد أن يُرفَض فيلم وود، وتبدأ صداقتهما التي يعتقد البعض أن وود استغل خلالها شهرة بيلا لوغوسي. في الفيلم، لا يوجد استغلال: بيلا وإد صديقان. يستعين بيلا بصديقه إد في مواجهة عجزه وشيخوخته، ويقاتل إد لأجل أن يحصل لنفسه ولبيلا على مكانٍ في هوليوود. تفاؤل إد الدائم وانبهاره بالحياة يتفاعل بشكلٍ عفوي مع سخرية بيلا المريرة، ومعاً يَضحَكَان ويَحزَنان ويتوجعان ويُوجِعان.
يأتي صحافيون لتصوير بيلا في المصحة التي يُعَالج فيها من الإدمان، فيطردهم إد، عندها يُعاتبه صديقه على طرده لهم، لقد ضيع عليه فرصة العودة إلى الصفحة الأولى ولو من بابِ الشماتة في مصيبته. إذا كانوا يُريدون أن يقتاتوا عليه، فلماذا يمنعهم؟ هذا عملهم. حوارُ بيلا وإد يصل أحياناً إلى درجة استشهادٍ شبيهة بتلك التي يُفترض أنها كانت لدى القديس فرانسيس: إذا كان يسرهم أن يسخروا منا، فلماذا نمنعهم من السخرية منا؟ في حفل افتتاح فيلم عروس الوحش، يكاد الجمهور يفتك بإد وبيلا وبقية الفريق، وبعد نجاتهم بالكاد. يضحك بيلا: "نعم! كان ذلك عرضاً افتتاحياً حقاً!" لقد كاد الجمهور يفتك بهم، وهذا أكثرُ حيوية من أن يشخر النقاد أثناء عرضهم، أو يصفق الجمهور، أو يخرج كأنه لم يدخل.
رفع بيلا لوغوسي الابن قضية على تِم بِرتُن ودينيس دي نوفي - منتجي الفيلم - ليمنع تصوير الفيلم وإظهار والده بشكلٍ لا يرضاه. الحكم النهائي جاء في صالح بِرتُن وفريقه، لأن لوغوسي شخصية عامة مملوكة للجميع، لا علامة تجارية يُمكن لورثته حصرُ استخدامها. قضية بيلا لوغوسي الابن تطرح سؤالاً آخر عن الخيانات العائلية الصغيرة التي نُريد لها أن تُنسى، لكنها تعود وترفض الرحيل. وعلى عكس لوغوسي الابن، ساعدت كاثي وود - أرملة إد وود - فريق الفيلم على تقديم العملِ الذي يشهدُ على وجود إد وود الإنساني.
يُصور إد وود أفلامه في أتعسِ ظروفٍ يُمكن تصورها، ولا يُعيد تصوير المشهد أبداً لأنه يرى كُل شيء كاملاً. انبهاره ليس مزيفاً، ورفضه لإعادة عملِ أي شيء ليس عن ضيق أفق، بل لأنه يرى كُلَ شيء كاملاً، ويُردد سطور الحوار منبهراً ودمعةٌ في عينه. تقول صديقته الأولى إن أفلامه سيئة جداً ولا أحد يشاهدها، وإنه يُضيع حياته وحياة أصدقائه، فيتوقف قليلاً، لكنه يُواصل - بعد ذلك - سعيه المحموم مع أصدقائه، حاشية المنبوذين المحيطة به.
في سعيه للحصول على التمويل يلجأ إد وود إلى تاجر لحومٍ لا يفقه شيئاً عن الأفلام، ومن ثم يُقنع الكنيسة المعمدانية بأن تُمول له فيلمه الأشهر الخطة التاسعة من الفضاء الخارجي بعدها اثني عشرَ فيلماً عن الحواريين من أرباح الفيلم. لأجلِ ذلك، يُقنع أصدقاءه جميعاً - طاقم الفيلم - بأن يتلقوا العماد، ويفعلون ذلك جميعاً لأجله. وفي ليلة افتتاح الفيلم، يبكى تأثراً لأن ذلك الفيلم الذي سيتذكره العالم به، وينطلق في المطر وبسيارة مملوءة بالمياه ليتزوج صديقته كاثي أوهارا التي ستصير زوجته لعشرين عاماً قادمة بكل ما فيها من مرارة وألم وبهجة. ينتهي الفيلم متفائلاً، ويقول إن إد وود بعدها انحدر إلى الإدمان - من دون أن يعرض هذه النهاية - ليبقى وفياً لروحه الإيجابية. بذلك، يكون الفيلم متناغماً، ومكتملاً فنياً. الفيلم لا يبدأ متفائلاً لينتهي بالتشاؤم والخراب، لكنه يحافظ على إيقاعه الذي ينظر إلى الحياة نظرةً إيجابية، ويتقبل الجميع كما هم. إد وود لا يُصدِرُ الأحكام، ويتقبل الجميع من دون تشكيك أو تساؤل. ورغم أنه قد يظهر كمن يعيش في الوهم، إلا أنه يُجبِرُ مشاهديه على سؤال أنفسهم عن حقيقتهم، وعن حقيقة العالم الذي أقاموه في خيالهم ووقفوا يحاكمون العالم الحقيقي وفقاً له. إن كُلَ شيءٍ كاملٌ كما هو، وأي تصورٌ عقلاني يُحدد الكامل لا يعدو كونه مُجرد زيف.
يُجبرنا الفيلم على إعادة النظر في تقييمنا السطحي للحياة: من السهلِ أن نجلسَ في مقاعد مريحةٍ ونحكم على مخرجٍ ما بأنه أسوأ مُخرجٍ في التاريخ، لكن حكمنا هذا يُسقِطُ من الاعتبار كُل الحيثيات المتعلقة بحياة هذا المخرج، وبالأفلام التي أنتجها. رُبما لم يُخرِج المواطن كِن، لكنه فعل ما بوسعه، وحاول أن يبقى وفياً لفنه، ولأصدقائه، ولما يعتقده مهماً في الحياة.
لا يستطيع كُلُ قلبٍ احتمال الثقل الحقيقي لقصة إدوارد د. وود الابن الحقيقية. يقول تِم بِرتُن هذا بفيلمٍ جميل مكتملٍ فنياً، يتشارك تصويره ومونتاجه مع موسيقاه لتجسيد السيناريو المكتوب بشجن، ويُكمل التمثيل الممتاز فيه أركانه.
إد وود (1994) - تِم بِرتُن (إخراج وإنتاج) - دينيس دي نوفي (إنتاج) - تمثيل: جوني ديب (إد وود)، مارتن لاندو (بيلا لوغوسي)، سارة جيسيكا باركر (دولوريس فولر)، بيل موراي (بني بريكنردج)، جورج ستيل (تور جونسون)، باتريشيا أركيت (كاثرين أوهارا) - سكوت ألكساندر ولاري كارازويسك (سيناريو) - ستيفان زابسكي (تصوير) - كريس ليبنزون (مونتاج) - هوارد شور (موسيقى) - أفلام تتشستون (توزيع)
يعتقد بعض النقاد أن فيلم إدوارد سيزرهاندز (1990) - أول عملٍ مشترك بين بِرتُن وديب - الفيلم الذي يُقدم فيه بِرتُن شهادته الفنية بوصفه مخرجاً، وشهادته الإنسانية على الحياة بأوضح صورة، غير أن فيلم إد وود شخصي أكثر من إدوارد سيزرهاندز، وأكثر صدقاً وقُرباً إلى القلب. كُل شخصيات الفيلم شخصياتٌ واقعية - على خلاف شخصيات إدوارد سيزرهاندز - ومع ذلك، فإنها تُمثِل جو الغرابة والطرافة الذي يُميز بِرتُن، فإدوارد د. وود الابن يجمع حوله المنبوذين والمختلفين والموصومين مثلما يفعل تِم بِرتُن مع أطفاله الذين لفظهم المجتمع. ورغم أن بِرتُن مُخرجٌ ناجح يحظى بتمويل لا بأس به ليصنع أفلامه الناجحة، إلا أن جزءاً منه - ومن أي مُخرجٍ - يستطيع أن يجدَ نفسه في إد وود الذي يُشبه نفسه بأورسون ويلز، ويتحدث إليه ويلز نفسه عن همٍ مشترك بينهما - وبين كُل المخرجين: المساومة على رؤية المخرج الفنية لإرضاء المُمولين.
اختار بِرتُن تصوير فيلمه بالأبيض والأسود ليُحافظ على جو الفترة التي يتحدث عنها الفيلم، وليُعطي انطباعاً بالتقادم والانتماء إلى عالمٍ آخر يختلف عن العالم الحالي. اختيارُ بِرتُن للأبيض والأسود كان خياراً كارثياً في شباك التذاكر، لكنه كان خياراً موفقاً فنياً، إذ ركز على الأبيض والأسود، الظل والنور، ودرجات الألوان الوسطى بينهما في فيلمه. مُنذُ افتتاحيته - التي صمُمت لتستوحي افتتاحيات أفلام إد وود، خصوصاً الخطة التاسعة من الفضاء الخارجي- والفيلم يُقدم احتفاء بالسذاجة والفطرية. لا توجد خدعٌ متطورة في أفلام إد وود، ولا محاولات لإيهام المتلقي بأن ما يجري على الشاشة حقيقي. لا ينطلق وود من فلسفة تقتضي مشاركة المتلقي في الخداع، لكن من فكرة أن الرؤية العامة التي تحكم العمل ما يُهِم، والباقي مُجرد تفاصيل يُمكن التغاضي عنها. عندما يعترض ممولو الخطة التاسعة من الفضاء الخارجي على وضوح الديكور وبدائية الأخطاء التي يرتكبها وود، يرد عليهم معترضاً: "ألم تسمعوا بالتعطيل الإرادي لعدم التصديق أبداً؟" لا تهم تفاصيل المشهد، طالما أنه يروي قصةً معينة.
مقدمة الفيلم التي يُلقيها كريزول (جيفري جونز) من داخل تابوت تبدو هزلية لأول وهلة، إذ يسأل المشاهدين: "هل يُمكن لقلبك تحمل الحقائق الصادمة لقصة إدوارد د. وود الابن الحقيقية؟" - في إشارة لمقدمات أفلام إد وود التي يُفترض أنها مرعبة - لكن الهزل يتلاشى مع مرور أحداث الفيلم، فأحداث قصةُ إدوارد د. وود الابن تحتاج فعلاً إلى قلبٍ شجاع ليتحمل عمق الفيلم الإنساني، والمرآة التي يحملها في وجوه مشاهديه، لا ليروا أشكالهم، بل ليروا دواخلهم. يُرينا الفيلم ببساطة إد وود الإنسان، لا المخرج الرجيم الذي دمغه نقادُ السينما بوصمة أسوأ مخرج في التاريخ، ووُجِدت بعد موته طائفة تتبعه وتتبع ممثليه. لا يُدافع الفيلم عن أفلام وود، ولا يحاول أن يُظهِر أنه كان مُخرجاً رائعاً أُسيء فهمه، لكنه يُرينا العالم من خلال عينيه المنبهرتين المتفائلتين.
فيلم إد وود يُعيد النظر في كثيرٍ من الخرافات الفنية؛ هُناك اعتقادٌ شائع يرى أن الفنان العظيم ينبغي أن يكون طفلاً منبهراً مندهشاً، وإد وود كان طفلاً مندهشاً منبهراً متسع العينين لكنه لم يكن فناناً عظيماً. كانت عنده رؤية فنية، وكان مولعاً بفنه حقاً، ومثابراً، لكنه مع ذلك لم يتمكن من صُنعِ أفلامٍ جيدة. تعرض إلى النبذ الذي تعرض له جيمس كاميرون وتِم بِرتُن، لكنه لم يصنع تيتانك وآفاتار ولم يحقق أعلى المبيعات في شباك التذاكر، كما أنه لم يحول شغفه بالأشياء الغريبة إلى مصدرِ قوةٍ له كما فعل حامي المنبوذين الآخر تِم بِرتُن. إد وود كان صاحب رؤية - مثل الفنانين العظماء - لكنه لم يكن صاحب حرفة، لذلك فشل، فالرؤية لا تصنع عملاً فنياً وحدها. يدفع الفيلم المشاهدين للتساؤل عمّا يعنيه الفنُ حقيقة، وعن واقعية المقاييس الفنية المفروضة على الأعمال الفنية.
مثل بقية أطفال بِرتُن، إد وود طفلٌ منبوذ، لكنه طفلٌ يحمي بقية الأطفال المنبوذين الآخرين. يعمل إد وود مع أصدقائه دائماً - مثل تِم بِرتُن - ويقاوم نظام الإستوديوهات بالنجم الوحيد الذي يمكنه إقناعه بالعمل معه: بيلا لوغوسي. ورغم أن هوليوود قد أدارت ظهرها لبيلا لوغوسي منذ زمنٍ، إلا أن إد وود يؤمن به، ويحاول أن يجد له عملاً فيها باستمرار. كما أنه يتمسك بفريقه البائس، ويهرع لمساعدة فامبايرا عندما تفقد عملها، ويُقنع تور جونسون باحتراف التمثيل.
صداقة إد وود وبيلا لوغوسي من أجملِ الصداقات التي يُصورها الفن، ومن المقومات التي تجعل فيلم إد وود ما هو عليه حقاً. إد وود مخرج أفلامٍ شاب يُريد أن يُثبت نفسه في المدينة التي لا ترحم، منبهرٌ ومتفائل دوماً. وبيلا لوغوسي نجمٌ هجرته الأضواء وهجرته هوليوود يُخطط للموت عمّا قريب هرباً من شيخوخة لا ترحم يستهلكها المرض والفقر والإدمان. يلتقيان صدفة بعد أن يُرفَض فيلم وود، وتبدأ صداقتهما التي يعتقد البعض أن وود استغل خلالها شهرة بيلا لوغوسي. في الفيلم، لا يوجد استغلال: بيلا وإد صديقان. يستعين بيلا بصديقه إد في مواجهة عجزه وشيخوخته، ويقاتل إد لأجل أن يحصل لنفسه ولبيلا على مكانٍ في هوليوود. تفاؤل إد الدائم وانبهاره بالحياة يتفاعل بشكلٍ عفوي مع سخرية بيلا المريرة، ومعاً يَضحَكَان ويَحزَنان ويتوجعان ويُوجِعان.
يأتي صحافيون لتصوير بيلا في المصحة التي يُعَالج فيها من الإدمان، فيطردهم إد، عندها يُعاتبه صديقه على طرده لهم، لقد ضيع عليه فرصة العودة إلى الصفحة الأولى ولو من بابِ الشماتة في مصيبته. إذا كانوا يُريدون أن يقتاتوا عليه، فلماذا يمنعهم؟ هذا عملهم. حوارُ بيلا وإد يصل أحياناً إلى درجة استشهادٍ شبيهة بتلك التي يُفترض أنها كانت لدى القديس فرانسيس: إذا كان يسرهم أن يسخروا منا، فلماذا نمنعهم من السخرية منا؟ في حفل افتتاح فيلم عروس الوحش، يكاد الجمهور يفتك بإد وبيلا وبقية الفريق، وبعد نجاتهم بالكاد. يضحك بيلا: "نعم! كان ذلك عرضاً افتتاحياً حقاً!" لقد كاد الجمهور يفتك بهم، وهذا أكثرُ حيوية من أن يشخر النقاد أثناء عرضهم، أو يصفق الجمهور، أو يخرج كأنه لم يدخل.
رفع بيلا لوغوسي الابن قضية على تِم بِرتُن ودينيس دي نوفي - منتجي الفيلم - ليمنع تصوير الفيلم وإظهار والده بشكلٍ لا يرضاه. الحكم النهائي جاء في صالح بِرتُن وفريقه، لأن لوغوسي شخصية عامة مملوكة للجميع، لا علامة تجارية يُمكن لورثته حصرُ استخدامها. قضية بيلا لوغوسي الابن تطرح سؤالاً آخر عن الخيانات العائلية الصغيرة التي نُريد لها أن تُنسى، لكنها تعود وترفض الرحيل. وعلى عكس لوغوسي الابن، ساعدت كاثي وود - أرملة إد وود - فريق الفيلم على تقديم العملِ الذي يشهدُ على وجود إد وود الإنساني.
يُصور إد وود أفلامه في أتعسِ ظروفٍ يُمكن تصورها، ولا يُعيد تصوير المشهد أبداً لأنه يرى كُل شيء كاملاً. انبهاره ليس مزيفاً، ورفضه لإعادة عملِ أي شيء ليس عن ضيق أفق، بل لأنه يرى كُلَ شيء كاملاً، ويُردد سطور الحوار منبهراً ودمعةٌ في عينه. تقول صديقته الأولى إن أفلامه سيئة جداً ولا أحد يشاهدها، وإنه يُضيع حياته وحياة أصدقائه، فيتوقف قليلاً، لكنه يُواصل - بعد ذلك - سعيه المحموم مع أصدقائه، حاشية المنبوذين المحيطة به.
في سعيه للحصول على التمويل يلجأ إد وود إلى تاجر لحومٍ لا يفقه شيئاً عن الأفلام، ومن ثم يُقنع الكنيسة المعمدانية بأن تُمول له فيلمه الأشهر الخطة التاسعة من الفضاء الخارجي بعدها اثني عشرَ فيلماً عن الحواريين من أرباح الفيلم. لأجلِ ذلك، يُقنع أصدقاءه جميعاً - طاقم الفيلم - بأن يتلقوا العماد، ويفعلون ذلك جميعاً لأجله. وفي ليلة افتتاح الفيلم، يبكى تأثراً لأن ذلك الفيلم الذي سيتذكره العالم به، وينطلق في المطر وبسيارة مملوءة بالمياه ليتزوج صديقته كاثي أوهارا التي ستصير زوجته لعشرين عاماً قادمة بكل ما فيها من مرارة وألم وبهجة. ينتهي الفيلم متفائلاً، ويقول إن إد وود بعدها انحدر إلى الإدمان - من دون أن يعرض هذه النهاية - ليبقى وفياً لروحه الإيجابية. بذلك، يكون الفيلم متناغماً، ومكتملاً فنياً. الفيلم لا يبدأ متفائلاً لينتهي بالتشاؤم والخراب، لكنه يحافظ على إيقاعه الذي ينظر إلى الحياة نظرةً إيجابية، ويتقبل الجميع كما هم. إد وود لا يُصدِرُ الأحكام، ويتقبل الجميع من دون تشكيك أو تساؤل. ورغم أنه قد يظهر كمن يعيش في الوهم، إلا أنه يُجبِرُ مشاهديه على سؤال أنفسهم عن حقيقتهم، وعن حقيقة العالم الذي أقاموه في خيالهم ووقفوا يحاكمون العالم الحقيقي وفقاً له. إن كُلَ شيءٍ كاملٌ كما هو، وأي تصورٌ عقلاني يُحدد الكامل لا يعدو كونه مُجرد زيف.
يُجبرنا الفيلم على إعادة النظر في تقييمنا السطحي للحياة: من السهلِ أن نجلسَ في مقاعد مريحةٍ ونحكم على مخرجٍ ما بأنه أسوأ مُخرجٍ في التاريخ، لكن حكمنا هذا يُسقِطُ من الاعتبار كُل الحيثيات المتعلقة بحياة هذا المخرج، وبالأفلام التي أنتجها. رُبما لم يُخرِج المواطن كِن، لكنه فعل ما بوسعه، وحاول أن يبقى وفياً لفنه، ولأصدقائه، ولما يعتقده مهماً في الحياة.
لا يستطيع كُلُ قلبٍ احتمال الثقل الحقيقي لقصة إدوارد د. وود الابن الحقيقية. يقول تِم بِرتُن هذا بفيلمٍ جميل مكتملٍ فنياً، يتشارك تصويره ومونتاجه مع موسيقاه لتجسيد السيناريو المكتوب بشجن، ويُكمل التمثيل الممتاز فيه أركانه.
إد وود (1994) - تِم بِرتُن (إخراج وإنتاج) - دينيس دي نوفي (إنتاج) - تمثيل: جوني ديب (إد وود)، مارتن لاندو (بيلا لوغوسي)، سارة جيسيكا باركر (دولوريس فولر)، بيل موراي (بني بريكنردج)، جورج ستيل (تور جونسون)، باتريشيا أركيت (كاثرين أوهارا) - سكوت ألكساندر ولاري كارازويسك (سيناريو) - ستيفان زابسكي (تصوير) - كريس ليبنزون (مونتاج) - هوارد شور (موسيقى) - أفلام تتشستون (توزيع)
باعشق الفيلم ده.
ردحذف