26 مارس 2008

الخُبْرة!.. الخُبْرة!..

كُنا نتحدث - كعادتنا - فلا نترك شيئاً إلا ناقشناه، ولا موضوعاً إلا وقلبنا كُل نواحيه التي نستطيع التفكير فيها، حتى جاء السؤال: لماذا كتب (كبيرنا) اسم صديقه الذي نعرفه في قائمة من شكرهم لملاحظاتهم القيمة على كتابه المميز، برغم أننا نعرف أن الصديق المذكور ليس على المستوى الذي يؤهله ليقيم عمل (كبيرنا)؟
وهنا يأتي الجواب سهلاً، وواضحاً، لقد شكر (كبيرنا) صديقه لأنه صديقه!.. يشربان القهوة أو الشاي سوية كل يومٍ، يغتابان أصدقائهما الآخرين سوية، يلعنان سنسفيل خصومهما، يُعلقان على كُل ما يطرأ لهما بشعورٍ مشتركٍ من التواطؤ. ليس هُنالك سببٌ أقوى من هذا!
لكن، تقول صديقتي، هذا عملٌ أكاديمي، والمعايير الأكاديمية لا شأن لها بالصداقة!..
صديقتي مثالية جداً! أمثالها قلةٌ نادرةٌ هذه الأيام، يبحث عنهم المرء باستخدام مسبارٍ فضائي، ثُم لا يُفلتهم إن عثر عليهم مهما حدث!..
المعايير الأكاديمية معايير وُضعت للتعامل البشري، وعندما يدخل العُنصر البشري في المسألة، يُصبح تطبيق قياسٍ موحد أمراً صعباً. ليفترض المرء صرامةً في تطبيق المعايير - أياً كانت - فإن عليه أن يفترض أنه لا يُطبقها على بشرٍ، وإن افترض أن البشر ليسوا بشراً، فالقياس بأكمله يسقط ويُصبح لاغياً.
الخُبرة - يا خبير ويا خبيرة - جزء من تعريف الإنسان أهمله علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع عندما عرفوا الإنسان بأنه: حيوانٌ مُفكر ناطق، أو حيوانٌ ضاحك، أو حيوانٌ ذو دين. الإنسان حيوانٌ مُفكر ناطق ضاحك ذو دينٍ وله خُبرة. فالخُبرة كلمةٌ قد تعني الصُحبة، والحاشية، والبطانة، والجماعة. وكُل امرئٍ فردٌ في جماعةٍ، وله خُبرة، يخدمها ويقوم على مصالحها، ويضطر لمراعاتها والرفع من شأنها إن علا، حتى وإن كان يعتقد أن خُبرته جماعة حمقى!
حتى في أعمالنا - غير الجليلة، وربما غير ذات الأهمية أصلاً - كطلابٍ في الجامعات فإننا نضطر إلى مُراعاة خُبرتنا، والمحسوبون أنهم من خُبرتنا، فالخُبرة تتميز بأن المرء لا يختارها تماماً بإرادته، وإنما قد تُفرض عليه أحياناً كثيرة بداعي المجاورة، طول الصحبة، الاعتقاد الشائع بأن فُلاناً من خُبرة علان، وأن فلانة هي خبيرة علانة. وعليه، ينبغي علينا أن نُراعي خُبرتنا، فنحمل عنهم بعض الأعباء والأعمال، ونحاول الرفع من شأنهم، وقد - في حالة العمل الجماعي - نلقنهم ما ينبغي أن يُقال أو يُفعل تلقيناً. ينبغي أن نخفض أجنحتنا لخبرتنا، وأن نضعهم قبلنا أحياناً، دون أن نُدرك ذلك في كثيرٍ من الأحيان، وإن أدركنا، فإننا نعرف أننا ملتزمون بخُبرتنا التزاماً لا فكاك منه.
حتى لو كان الخبير الذي رفعناه عالماً بحقيقة قدره، وبأنه قد يكون أجهل من دابةٍ، إلا أنه، ولأننا خُبرته، يقبل الرفع والتشريف دون تردد أو تهيب، لا لأنه راغبٌ فيه، بل لأن عليه أن يتقبله لأنه محسوبٌ على خُبرةٍ يجب أن يُراعيها!
الخُبرة تُدير كُل شيءٍ دائماً، ومُستعمرة الهنود ليست شيئاً مختلفاً. تُدير دُولاً، شركاتٍ، منظماتٍ، وزاراتٍ، فصول طلابٍ، وفرق كُرة القدم في دوري الحواري الرمضاني! وتنشأ بطريقةٍ لا يستطيع المرء تحديدها بصورةٍ تعريفية قاطعة، وتطور لتتحول إلى علاقة تعايشٍ وتبادلُ منفعة تدوم مدى الحياة، بغض النظر عن أي اعتباراتٍ أُخرى، فكم من خُبرةٍ يمقتون بعضهم بعضاً!..
لذا، يُدافع المرء عن خُبرته وإن اختلف معهم، يُوجه لهم الشُكر لمجرد ثرثرتهم فوق رأسه بينما ينجز أعمالهم، ينزل عن عليائه ليؤيدهم ويرد عنهم الأعادي عالماً بأنهم يستحقون أن يُربطوا في العراء للذئاب.. ومن يتجرد عن خُبرته لا يفعل ذلك نزاهة في الغالب، بل لشدة عجرفته، وكم من رذائل نخفيها في فضائل! وكم من فضيلةٍ هي رذيلة مستترة!..
فليحرص كُلٌ على خُبرته!..

هناك تعليق واحد:

  1. " ومن يتجرد عن خُبرته لا يفعل ذلك نزاهة في الغالب، بل لشدة عجرفته، وكم من رذائل نخفيها في فضائل! وكم من فضيلةٍ هي رذيلة مستترة!.. "

    بحسب ما فهمت فإنك تقصدين بالخبرة ما نسميه الصحبة أو الشلّة - بكسر الشين - وقد فهمت من الاقتباس أعلاه أن التنكر لمن هم شلّة المرء يتم غالبا عن عجرفة وليس عن نزاهة , ولكن - بعيدا عن المثالية - أليس هذا - التنامي للصحبة ليس إلا - أبعد ما يكون عن النزاهة والحيادية المطلوبة في الحياة .

    ردحذف