20 أكتوبر 2009

فاينز - 2

فاينز في دور براند(فاينز في دور براند)

مقابل صبيانية لورد فولدمورت وهملت، يأخذ براند ومارك أنتوني وأوديب الأمور بجدية شديدة. هدوء براند الغريب، وخطابة مارك أنتوني المتفجرة، وثقة أوديب المتغطرسة تقود هذه الشخصيات إلى سقوطها المأساوي المُحتَم - رُبما باستثناء مارك أنتوني الذي لن يسقط حتى مسرحية أنتوني وكليوباترا.
حين لا يُطابق حساب الفرد حساب العالم

في سعيه إلى الرب، يُضحي براند بكُل شخصٍ قد يكون قريباً إليه. ويصعد منحدراً مستقيماً إلى الأعلى، لكنه ينتهي في القاع مُحطماً بعد أن دمرته الشياطين التي سكنته. يعتقد براند نفسه مُخلصِاً، ويؤمن بأنه يسعى لخلاص روحه ومن حوله، لكنه إذ يُجاهد ليُعتق روحه من النار، يُعتقها من الإنسانية. مُقترب فاينز لأداء شخصية براند المُعقدة والعاصفة هادئ هدوء الثلج الذي يُحيط ببراند، لكنه هدوء مُخيف ومُظلم. جنون براند واضحٌ في هدوئه، وفي خضوعه المُطلق لما يعتقد أنه القوة العُليا. ما كان يُفترض ببراند إبسن أن ينطقه بقوةٍ وحسم، ينطقه براند فاينز بخضوع غريب. في خطاباته العاصفة حرارةٌ مبعثها اقتناع براند الراسخ. براند ليس مجرد قسٍ كالفني متطرف في زُهده، بل إنه مُلهَمٌ - أو مجنون - يرى خلاصه وخلاص العالم مُرتبطاً بالانعتاق من كُل نيرٍ دنيوي.

هدوء فاينز العنيف في براند، وجنونه الدموي المُظلم يتحول خطابة عنيفة وحيوية ومُتفجرة في أداءه لدور مارك أنتوني في الإنتاج الملحمي المُعاصر لمسرحية شكسبير الشهيرة يوليوس قيصر. في البداية، ليس مارك أنتوني أكثر من مجرد سكير يُبقيه يوليوس قيصر في حاشيته لأنه يُسليه - يُمضي فاينز مُعظم المسرحية قبل مقتل قيصر مرتدياً قميصه الداخلي وسروالاً أبيض -، ثم يتحول إلى خطيبٍ عنيفٍ ومُتفجر بعد مقتل قيصر. يُشير أنتوني للجريمة والمجرمين، ويقود بخطابته بروتوس والمتآمرين إلى موتهم. انفجار مارك أنتوني العنيف وخُطبه العصماء لا تُناسب مُهرج قيصر الذي يُلقي به السُكر في كُل مكانٍ حول القصر. لكن عربدة أنتوني العنيفة، وولاءه لقيصر يُبرران تحوله الدرامي. في أداءه، يختار فاينز إظهار جانب أنتوني العنيف في رقصه على المسرح أثناء سكره، وفي اشتراكه في مُسابقة رياضية بناء على طلب قيصر، حركاته متوترة، متشنجة، عنيفة، وتوحي بأن مارك أنتوني أكثر بكثير مما يظنه فيه من حوله.

يقترب مارك أنتوني من جثة قيصر الدامية، ويتحقق من موته، ليُشير بوضوحٍ إلى القتيل وإلى قتلته، ويبدأ انفجاره العنيف مُطالباً بالثأر لقيصر، وبالعدالة له. لولا خطابة مارك أنتوني وصرامة شخصيته، والعُنف الذي توحي به حركاته، لكان بإمكان مارك بروتوس النجاة من غائلة مؤامرة قتل يوليوس قيصر، ولرُبما كتب التاريخ أن قيصر كان طاغية، وكان قتلته أبطالاً. شخصية مارك أنتوني الحادة تُشير بوضوح إلى أنه سيسقط سقوطاً مأساوياً قادماً، لأنه لا يزنُ عواطفه، ولا يعرفُ غير أن يُلقي بنفسه في وسط النيران.

في أوديب، يُقدم فاينز أوديب واثقاً من نفسه إلى حد الغطرسة. أوديب يهزأ بالعراف الأعمى، وبالكورس الذي يُخبره الحقيقة. أوديب الذي يلعن نفسه دون أن يعرف، حارماً نفسه من قطرة ماء تسقيه إياها الشفقة لأنه جلب اللعنة على طيبة. خطابُ أوديب عن جالب اللعنة مُخيف، ليس فقط في مُفارقة أن أوديب يُلقي قدره هو، بل في التشفي الكامن في كلمات أوديب. أوديب مُصمم على تعذيب جالب اللعنة بهدوء تام، وهو مستعدٌ لإلحاق الأذى به من دون التفكير في أي رحمةٍ قد يستحقها جالب اللعنة الغافل. غطرسته تأتي من كونه ملك طيبة المتوج الذي لا يُنازعه أحدٌ سلطته. ثقته لأنه قد قتل لايوس وتزوج امرأته يوكاستا، وامتلك بذلك الدولة والفراش، غير مُدركٍ للعبة الآلهة، ولكون لايوس أباه ويوكاستا أمه. في مسرحية مليئة بالمُفارقات، تتحول خطوات أوديب من غطرسة الملك إلى تذلل طالب الرحمة. أوديب يبكي بناته اللائي لن يُريدهن أحدٌ، فأبوهن أخوهن، وأمهن جدتهن. وفجأة يجد نفسه ابناً عاقاً، وأباً عاجزاً عن حماية أبنائه، وملكاً معزولاً. الخلل في شخصية أوديب يكمن في غروره وإيمانه بعلوه، ويقوده هذا الخلل إلى القاع زاحفاً على الأرض مُضرجاً بالدماء بعد أن فقأ عينيه يسأل الخلاص من قضاءٍ أنزله بنفسه غير عالم. - والدُماء تلوث براند، ومارك أنتوني، وأوديب قُرب نهايات المسرحيات الثلاث -.

في التراجيديات الثلاث، تُحاول الشخصيات الثلاث فرض رؤيتها على العالم، لكن هذه الرؤى - التي قد تكون نبيلة المقاصد - تنتهي إلى سقوط دموي فاجع - قد لا يتحقق تماماً في يوليوس قيصر -، وفي أداء فاينز المُميز لهذه الشخصيات الثلاث، يقترب منها بهدوء موحياً بما سيلي من سقوط مُثل براند إلى هاوية الجنون، وصعود مارك أنتوني العنيف، واكتشاف أوديب لحقيقته المُروعة التي تهز كُل حصون ثقته المُستعارة وتُزلزله هاويةً به إلى قاع الخراب. يُدرك فاينز أن الخلل في هذه الشخصيات يكمن في أن العالم لا يسير وفق ما تتوقعه، وأن هذا الاختلاف سيولد حركاتٍ درامية عنيفة، فيُضيف عُمقاً درامياً وعُنفاً بمقتربه الهادئ الذي يُطمئن المُشاهد الغافل ليأخذه معه في رحلاتٍ عاصفة إلى الجانب المُظلم من الحياة.

هناك 6 تعليقات:

  1. سلمت يا عزيزي على هذه القراءة الممتعة والمتعمقة.
    للأسف لم اسمع بـ فاينز إلا الآن. وبمقاليك التحليلين الجميلين حرّضتني على أن أشاهده خاصّة وأنا أثق كثيرا بذوقك العالي وبأرائك الممتازة.
    وفي الواقع يهمّني أن اعرف رأيك أيضا عن ظاهرة إعادة إنتاج بعض الأعمال المسرحية الكبيرة وتناولها تناولا مختلفا من حيث الشكل والمضمون إما تلبية لضرورة عصرية أو لإعطائها بعدا إنسانيا وأخلاقيا أكثر درامية وعمقا. لاحظت انتشار هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة في عدد من الأعمال السينمائية والمسرحية. والأمر لا يقتصر فقط على السينما والمسرح، بل يمتد ليشمل حتى الموسيقى الكلاسيكية. فهناك محاولات كثيرة لإعادة تقديم بعض الأعمال الموسيقية الكلاسيكية وفق منظور جديد يختلف، قليلا أو كثيرا، عن شكل وروح العمل الأصلي. ولا اعرف إن كنت استمعت إلى نسخة نايجل كينيدي من موسيقى الفصول الأربعة لـ فيفالدي، لأنها مثال واضح على ما اعنيه. كينيدي عازف كمان موهوب ومتميّز. ومع ذلك لم يعجبني كثيرا عزفه لموسيقى فيفالدي. قد يكون السبب أن الأذن اعتادت سماع تلك الموسيقى بشكل مختلف. هناك أيضا طريقة عزف لارا سانت جونز وفانيسا ماي لبعض الأعمال الكلاسيكية بطريقة فيها تجديد كما ان فيها خروجا واضحا عمّا ألفه الناس.
    أقول هذا الكلام مع أنني من حيث المبدأ لست ضد فكرة أن يقدّم العمل الإبداعي ضمن رؤية جديدة ومختلفة والحكم في النهاية يبقى للمتلقي.

    >>>>>
    لولا خطابة مارك أنتوني وصرامة شخصيته، والعُنف الذي توحي به حركاته، لكان بإمكان مارك بروتوس النجاة من غائلة مؤامرة قتل يوليوس قيصر، ولرُبما كتب التاريخ أن قيصر كان طاغية، وكان قتلته أبطالاً.
    <<<<<

    جميلة وبليغة جدّا هذه العبارة. أحيانا تغريني نظرية الاحتمالات هذه. اللعبة الفكرية التي اسمّيها "لو أن". اقصد أن التاريخ حافل بالكثير من الحوادث التي ترتب عليها آثار ضخمة وبعيدة المدى لعبت في مصائر دول وأعادت صياغة حياة شعوب بالكامل، بفعل كلمة صغيرة أو تصرّف بسيط. تعجّبت أيضا من هذا التحوّل الدراماتيكي الكبير في شخصية مارك انتوني والذي حوّله من دور العاشق والمتذلل أمام كليوباترا إلى شخصية عنيفة وقاسية ومحبّة للانتقام. واقع الحال كما أتصوّره أن قيصر كان طاغية فعلا لكن سلوك انتوني حوّله إلى ضحية وحوّل قاتليه إلى مجرمين. لكن هذه قصّة أخرى.
    ختامان لك مني عاطر المحبّة وخالص السلام.
    بروميثيوس

    ردحذف
  2. عزيزي اسلوب عرضكفاينز اعجني كثيرا وتحليلك الممتع
    اتمني ان نصبح صديقين

    ردحذف
  3. عزيزي اسلوب عرضكفاينز اعجني كثيرا وتحليلك الممتع
    اتمني ان نصبح صديقين

    ردحذف
  4. أخجلتني بهذا الإطراء الرقيق يا عزيزي بروميثيوس، وشجعتني على إتمام سلسلة المقالات عن ريف فاينز. أشكرك جزيل الشكر على كل ما قلته، خصوصاً مع ذوقك الفني العالي والراقي الذي يمدني – وكثيرين من متابعي مدونتك – بذخيرة فنية تذكي جذوة الشغف بالفنون في النفس.
    أعتذر لتأخري طويلاً في الرد على تعليقك الكريم، وذلك لمشاغل كثيرة. أما عن ظاهرة إعادة إنتاج الأعمال التي وصفتها بتفصيل يُغني عن أي إضافة، فأعتقد أنها من الأسباب التي تجعل الفن يستمر في الحياة طويلاً. أنت قلتها، تقديم الأعمال القديمة بروحٍ جديدة يخرج عمّا ألفه الناس، وقد يتسبب في نفورهم من الجديد. لكن الفن خروجٌ عن المألوف، وتغيير لكل ما اعتاده الناس من أشكال.
    صحيح أن موسيقى فيفالدي مميزة، لكن نسخة نايجل كنيدي عنها مميزة كذلك. ولكلٍ من النسختين مزاجٌ خاص يجعل المرء يستمع إليها. الأمر نفسه بالنسبة لنسخ فانيسا ماي عن أعمال باخ، مع أنني أرى نفسي من المولعين بباخ – وعادة ما يرفض المعجبون بأي فنان أي تعديلٍ على أعماله – إلا أن إعادة تقديم الأعمال القديمة بروحٍ جديدة يُغني الفن بمزيدٍ من الحيوية والإبداعية، ويكسر الأُطر الجامدة. ووجود نسخة جديدة عن عملٍ قديم، لا يلغي القديمة. فأعمال باخ موجودة كما ألفها، وموجودة كما رآها بعض المجددين. والرابح النهائي هو المتلقي الذي يستمتع بالتنوع والثراء الفني الذي يوفره إعادة النظر في الأعمال القديمة – كما أشرت في تعليقك.
    هُناك فرقٌ تخصصت في إعادة النظر في الأناشيد الكنسية القديمة مثلاً، وقدمتها بروح العصر الجديد، ولعل من أشهرها فرقة Era التي تشتهر بأغنية "القداس" التي هي إعادة نظرٍ في كانتانا كارل أورف "كارمينا بيورانا" مع مزيج من الأناشيد الكنسية القديمة التي تعرف بالأناشيد الجورجية، وهذا أمرٌ جميل لأنه يحفظ الأعمال القديمة من الزوال. فكثيرون سيبحثون عن النسخ الأصلية لهذه الأعمال الجديدة. الأمر الذي يذكرني بالموسم الأول من برنامج "سوبر ستار" عندما كان يحظى بإقبال جماهيري شديد، فكثيرون من الأجيال الجديدة عادوا لتذوق الطرب الأصيل – وأنا منهم – ذلك أنني عدتُ إلى أعمال أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وملحم بركات وعبد الوهاب – بل ومحمد عبد المطلب – لأنني استسغتها بالشكل الجديد الذي قدمه بها المشتركون في البرنامج.
    إعادة النظر في الأعمال الأدبية أمرٌ قديمٌ نسبياً، وكثيرٌ من الأدباء الكبار مارسه بشكلٍ أو بآخر. يوجين أونيل وجان أنوي أعادا تقديم مآسي سوفوكليس في عملين مهمين هما – على الترتيب – [الحداد يليق بإلكترا] و[أنتيجونا]. وسوفوكليس نفسه بنى مآسيه على أناشيد هوميروس التي شكلت [الإلياذة] و[الأوديسة]، وهوميروس بنى قصائده على أغاني الشعراء الجوالين في اليونان.
    في زمنٍ قريب، قدمت زادي سميث روايتها الأولى [عن الجمال] في إعادة رواية لوقائع رواية إي. إم. فورستر [هورادز إند]، وعُدت روايتها عملاً أدبياً رفيعاً مأخوذاً عن عملٍ أدبي رفيع كذلك. عملٌ أدبي وُصف بأنه رفيع كذلك هو رواية الأمريكية إليزابث كوستوفا [المؤرخ] – الصادرة في نفس العام الذي صدرت فيه رواية زادي سميث – لكن رواية [المؤرخ] تعيد النظر في رمزٍ استُهلِكَ حتى بات يظهر أنه من المستحيل أن يأتي أحدٌ بجديد في شأنه، الكونت دراكولا. ومؤخراُ، قرأت عن مشروع لدمج روايات جين أوستن الرصينة بالزومبي آكلي الأمخاخ!
    الفكرة إن المتلقي هو الرابح في النهاية، وإن الفنان لا يرضى بالجمود أبداً. كم مرة عزف نايجيل كنيدي مقطوعات فيفالدي؟ لا شك أنه وصل إلى نقطة قرر فيها أن يغير المقطوعة لتلائم روحه، لأنه ليس مجرد أداة لتوصيل الألحان. ورُبما وجدت زادي سميث كثيراً مما سكت عنه فورستر فقررت إتمامه. ورُبما كانت إليزابث كوستوفا من المولعين بالكونت دراكولا، وقررت تحويل قصته إلى ملحمة.
    التمرد على الأشكال الفنية جزء من روح الفن، فآرثر ميلر، المؤلف المسرحي المعروف، كتب مسرحيته [موت بائع متجول] ثورة منه على القانون الذي يقول إن المأساة لا تنشأ إلا عند سقوط الشخصيات العظيمة كالملوك والأباطرة والقادة. وقبله بأربعة قرون، تمرد مارلو على نفس القانون، فجعل فاوستوس، الباحث الكنسي، بطلاً لمأساة.

    ردحذف
  5. بخصوص مارك أنتوني ويوليوس قيصر، فأتفق معك في أن لعبة "ماذا لو؟" مغرية جداً. ماذا لو لم يملك مارك أنتوني الخطابة الساحرة التي قلب بها جمهور روما ضد بروتوس وصحبه؟ ماذا لو حكم بروتوس؟ أحداث مسرحية [يوليوس قيصر] تقع قبل أحداث مسرحية [أنتوني وكليوباترا]، فبعد أن انتقم مارك أنتوني ليوليوس قيصر، اقتسم الزعامة مع وريثه أوكتافيوس قيصر الذي عُرف بلقب أغسطس (المحترم)، وقام في روما حكم ثالوثي. كليوباترا كانت زوجة يوليوس قيصر، ثم قررت أن الأوفق لها لتحتفظ بعرش مصر أن تغوي مارك أنتوني الذي قدم إلى مصر ليأخذ عرشها. بعدها، حرضته على مقارعة أوكتافيوس قيصر، وانتهى الاثنان نهاية مأساوية. ألهمت حكايتهما الكثير من الفنانين الذين أرادوها قصة حبٍ خالدة، بينما كانت قصة بحثٍ عن السلطة – كما أعتقدها – لكن سحر الفن جعل صورة كليوباترا ومارك أنتوني صورة عاشقين رغم أنف التاريخ.
    ربما نحتاج لفنانٍ جديد يُعيد صياغة الأسطورة!

    تحياتي القلبية لك بروميثيوس، وأطيب أمنياتي لك بعامٍ سعيد، وأجزل شكري لتعليقاتك القيمة الثرية.

    ردحذف
  6. hagag
    أشكرك جزيلاً على حسن ظنك بي، وأرجو أن أظل عنده. كما أرحب بك دائماً.

    ردحذف