21 فبراير 2010

سيدة اللوحات

وصول سيدة شالوت إلى كاميلوت(وصول سيدة شالوت إلى كاميلوت، رسامٌ غير معروف)

لو أن سيدة شالوت وصلت بخيرٍ إلى كاميلوت وقابلت سير لانسلوت، لاتخذت حكايتها مجرى جديداً رُبما كسر السحر وأزال عن قصتها التأثير الدرامي الذي ألهم رسامي ما قبل الرافاييلية المعاصرين لشاعر "سيدة شالوت" ألفرد تينيسون وأجيالاً من الرسامين بعدهم. هُناك شيء ساحرٌ في قصة سيدة شالوت المأساوية التي ترويها القصيدة، شيء قدري لا مفر منه جعل سيدة شالوت تهجر جزيرتها وتُبحر إلى كاميلوت التي وصلتها ميتة، مزيج من التسليم بالمكتوب ومقاومته جعل هذه القصيدة مُلهمة للعديد من الأعمال الفنية الخالدة - رغم أن بعض نقاد الشعر قد نفوا عنها صفة الجودة.
يعترض بعض النقاد الإنكليز على ما يرونه (إطناباً) في القصيدة، فالقصيدة مُبالغٌ في كتابتها، ومُعظم أجزائها وصفٌ لجزيرة شالوت وما تعكسه المرآة لسيدة شالوت ثم وصفٌ لما تمر به من كاميلوت. غير أن هذا الوصف مكمن قوة القصيدة، وما يجعلها مُلهمة للرسامين بالذات، فوصف الأمكنة في القصيدة يمكنهم من الإحاطة بدقائق الجو النفسي لسيدة شالوت وعكسه في لوحاتهم عنها ومصيرها المأساوي، خصوصاً وأنها كانت مثلهم - بشكلٍ أو بآخر - رسامة مسكونة بالرؤى التي تنسجها.
سيدة شالوت كما رسمها جون ويليام ووترهاوسأشهر اللوحات التي استوحت قصيدة "سيدة شالوت" لوحة جون ويليام ووترهاوس التي صورت واحداً من أكثر مشاهد القصيدة درامية وتأثيراً في النفس، خروج سيدة شالوت من جزيرتها الصغيرة على مركبٍ تتقاذفه الريح الشرقية عاصفة المزاج كما تشاء.
"وأسفل امتداد النهر الغامض
كعراف جريء في غشية؛
رائياً كل فرصه الضائعة
بسيماء زجاجية؛
نظرت إلى كاميلوت."
في اللوحة تعبير قوي عن ذهول سيدة شالوت التي ترى فرصها الضائعة بينما كانت في برجها الرمادي المنعزل محكومة بتعويذة، سيدة شالوت خائفة كذلك من اللعنة التي حلت عليها بسبب رؤيتها لكاميلوت، خائفة من الرياح، من الماء، لكنها ماضية في طريقها لأنها لم تعد تستطيع البقاء في شالوت بعد انكسار السحر. لا بد وأن تصل إلى كاميلوت.
سيدة شالوت كما أعاد يانغ زانغ رسمهاأعاد الفنان الرقمي يانغ زانغ رسم لوحة ووترهاوس رقمياً مغيراً بعض التفاصيل في خلفية اللوحة، كنوع الأشجار المختلف، والشلال الذي يظهر فيها - في إيماءة تقدير لفن ووترهاوس وتينيسون معاً، فسيدة شالوت تحولت إلى رمزٍ للمرأة العاشقة التي تعصف بها الريح في كل مكانٍ من دون مرشدٍ لها، أو لنداء الفن الغامض الذي يعصف بالفنان ويقوده إلى الضياع. تفاصيل اللوحة مهمة: الكتابة على المركب، الشمعات الثلاث - غير المذكورة في القصيدة - التي ترمز إلى ضعف الضوء الذي تعتمد عليه سيدة شالوت المتخبطة التي تقول القصيدة إنها تنظر بعينين زجاجيتين لا تريان شيئاً وتُبحر في مهب الريح، الثوب الأبيض والنظرة المرتاعة والملامح البريئة، الرداء والأوراق المنسابة مع الماء، وفوضى الأوراق والأغصان والأعشاب في مقدمة اللوحة، كلها تفاصيل تُعزز الأثر الدرامي لخروج سيدة شالوت من جزيرتها.
سيدة شالوت تنظر إلى كاميلوت، جون ويليام ووترهاوسألهمت القصيدة جون ويليام ووترهاوس لوحتين أخريين، إحداهما تصور سيدة شالوت ناظرة إلى سير لانسلوت، وفيها تظهر بشكلٍ مختلف تماماً عن لوحته الأخرى "سيدة شالوت" في البُنية الجسدية والشكل. سيدة شالوت هنا ليست فتاة رقيقة هشة، وإنما امرأة ناضجة مكتملة البنية، امرأة ذات مزاج غامض تسمع أصواتاً غريبة. ولا يتعلق الأمر باختلاف (موديل) الرسام في اللوحتين، بقدر ما يتعلق باختلاف التفسير الفني للقصيدة في اللوحتين، واختلاف المقطع المأخوذ. في اللوحة السابقة، كانت سيدة شالوت محكومة بقدرٍ أجبرها على الخروج من جزيرتها المنعزلة إلى كاميلوت، بينما في هذه اللوحة، تتخذ سيدة شالوت خياراً بنفسها، فتنهض من مكانها لتنظر إلى سير لانسلوت.
مع ذلك، تظل ملامح سيدة شالوت خائفة متوجسة، تتطلع في وجلٍ خشية أن تكتشفها أعينٌ خفية. خيوط المغزل تلتف حول ثوبها وتُقيدها في إشارة إلى ثقل اللعنة التي تحكمها، وعلى الأرض تتناثر كرات الخيوط السوداء التي وقعت منها في عجالتها - وقد تكون سوداء تعبيراً عن مخاوفها. في خلفية الصورة، تبدأ المرآة بالتصدع. لقد اتخذت سيدة شالوت خيارها، ولم تعد هناك فرصة للتراجع.
يرسم ووترهاوس في لوحته الثالثة مشهداً مبكراً من القصيدة، إذ يُصيب سيدة شالوت السأم من الظلال التي تعكسها مرآتها عندما ترى حبيبين تزوجا حديثاً ذاهبين إلى كاميلوت. تريد سيدة شالوت ما يزيد عن الظلال، شيئاً حقيقياً جداً. ولعل هذه إشارة مبكرة في القصيدة إلى خروج سيدة شالوت من الجزيرة لتستكشف كاميلوت. ألوان اللوحة مشرقة، لكن سأم سيدة شالوت ينعكس على كل شيء فيها، فالحبيبان في المرآة قصيان وكأنهما غير حقيقيين، وأبراج كاميلوت لا تبدو حقيقية أكثر من نسيج سيدة شالوت. كل ما حولها ممل وكئيب وباعث على السأم، المغزل، النسيج، قطع القماش المتناثرة، الخيوط. ولعل الرسام يُشير إلى أن سيدة شالوت كانت تريد حقيقية لا يُمكن مقايضتها بالصور. سيدة شالوت تريد أن تكون جزءاً من المشهد، لا ناقلة له. ورُبما كانت تلك رغبة في الرسام الذي يريد أن يذوب في النسيج الذي يرسمه، ويُصبح جزءاً منه، لا مجرد رسامٍ للظلال.
من المشاهد التي تنسجها سيدة شالوت بنفسٍ قانعة - ظاهرياً - لا يستفزها للتعبير عن سأمها غير مشهد الحبيبين الذي يبدو لها مجرد ظلٍ مهما حاولت نسجه، مما يوحي بأنها تسعى للاكتمال الذي تلوح فرصة لتحقيقه بظهور سير لانسلوت لاحقاً. وبتصويره للحبيبين على أنهما تفصيلٌ صغير في صورة، يُكثف ووترهاوس السأم الذي يُسيطر على سيدة شالوت، فرغم أنها تظهر كنموذج وحي - مقارنة بالحبيبين - إلا أنها طاقة معطلة مشغولة بأفكارٍ تُعبر عنها أبراج كاميلوت، أفكارٌ لا يُمكن التعبير عنها. هنا، تصير سيدة شالوت فعلاً تجسيداً للفنان أو المفكر أو الفيلسوف الذي لا يستطيع نقل رؤاه إلى سواه، وبالتالي يشله السأم، ويُصبح غير قادرٍ على تحقيق اكتماله. عندها تأتي التتمة في خروج سيدة شالوت إلى كاميلوت تمثيلاً رمزياً للخروج سعياً إلى تحقيق الرؤى وتجسيدها.
سيدة شالوت، ويليام هولمان هنتلوحة ويليام هولمان هنت احتفاء بالألوان التي تميز أسلوب ما قبل الرافاييلية، يُصور سيدة شالوت بينما المرآة تتصدع. سيدة شالوت شديدة البهاء لم تعد تنظر إلى المرآة التي تعكس أبراج كاميلوت كأنها دعوة سحرية إلى عالم الحلم، بل يشغلها التخلص من خيوط النسيج المتطاير بعد أن حلت اللعنة عليها. حالة الغرفة فوضى من الألوان التي تكاد تُغرق سيدة شالوت، والخيوط التي تملأ اللوحة تقيدها بقيودٍ قدرية، وتحولها نفسها إلى جزء من المنسوجات يحاول التحرر.
"تطاير النسيج عائماً في الهواء،
تصدعت المرآة من طرف إلى طرف،
“حلت علي اللعنة!”
صاحت سيدة شالوت."
في لوحته، يوحي هولمان هنت بأن سيدة شالوت نفسها جزء من السحر، مثلها مثل المرآة ومنسوجات الغرفة. هي ليست شخصاً حقيقياً يحاول الخروج من الوهم، بل جزء من الوهم نفسه يحاول التحرر. سيدة شالوت عند هولمان هنت شخصية في لوحة تريد الخروج إلى العالم، والمرآة المكسورة قد تكون انعكاساً للعالم الواقعي الذي تحاول الخروج إليه. هي شبيهة بشخصيات برانديلو الست التي تبحث عن مؤلف، إلا أنها لا تبحث عن مؤلف، بل عن شيء ملموس بعيداً عن انعكاسات المرآة، سيدة شالوت الشخصية التي تهرب من المؤلف لتلاقي حتفها لأنها ليست مصنوعة للعالم خارج حدود الذهن.
خروج سيدة شالوت من جزيرتها خروج الفنان من أسوار عقله والرؤى التي تحكمه ليحاول الوصول إلى العالم وإلى الاكتمال الفني، ورغم أن سيدة شالوت تموت في طريقها، إلا أنها تصل إلى كاميلوت، ويعرف كلُ من فيها أنها وُجِدت، وأنها سيدة شالوت، كما يُقر لها سير لانسلوت بالبهاء. الوصول النهائي لمركب سيدة شالوت الذي يحمل اسمها إشارة إلى خلود الاسم الذي يحوي خلاصة الوجود بينما يفنى الجسد، وإلى أن ما سيبقى منا ليس سوى أسمائنا. صحيح أن سيدة شالوت ماتت، إلا أنها حققت اكتمالاً فنياً بخروجها من حصار المرآة إلى مواجهة الواقع، وبأن العالم صار يعرف اسمها الذي لا يناله الموت.

هناك تعليقان (2):

  1. أهلا بك يا صديقي العزيز.
    موضوع رائع ووصف أنيق وبارع كما هي عادتك.
    كلامك جعلني أحبّ لوحة ووترهاوس أكثر. أصلا، ودون أن يعرف المرء خلفية القصّة بالضرورة، فإن جوّ اللوحة وملامح المرأة فيها مما ترتاح له النفس والعين. وكلما نظرت إليها كلما أحببتها أكثر وهذا كان يحصل معي دائما. لوحة الفنان الصيني جميلة ومعقولة كما أرى.
    "خلود الاسم هو الذي يحوي خلاصة الوجود بينما يفنى الجسد، وما سيبقى منا ليس سوى أسمائنا. صحيح ان سيدة شالوت ماتت، إلا أنها حققت اكتمالاً فنياً بخروجها من حصار المرآة إلى مواجهة الواقع، وصار العالم يعرف اسمها الذي لا يناله الموت".
    كم هي عظيمة وبليغة هذه الكلمات.
    مع خالص المودّة والتقدير.

    بروميثيوس

    ردحذف
  2. مرحباً بعودتك صديقي بروميثيوس..
    ذكرني تعليقك الجميل بلوحة ووترهاوس التي كانت معلقة في بيتنا القديم. كُنت أنظر إليها كل يوم - في طفولتي المبكرة - وأتساءل عن المصير القاتم الذي ألقاها في قاربٍ خشبي صغير يُبحر عبر مناظر رومانتيكية مُنذرة، ونظرة مرتاعة ترتسم على وجهها. رُبما لهذا، أغرمتُ بقصيدة "سيدة شالوت" عندما قرأتها. (ومنها جاء اسم المدونة). فالخروج من شالوت المعزولة إلى كاميلوت عالية الأبراج خروج بليغ من الخيال إلى الحقيقة، أو من الحلم إلى محاولة تحقيقه. وتصوير رمزي لطبيعة الفن والحياة.
    أعتقد أن عزرا باوند وت. س. إليوت لم يكونا موفقين في تجاهل "سيدة شالوت"، فباوند يقول إن الصورة المحسوسة أفضل مجازٍ يستخدمه الشعر للحديث عن المجرد، وصور القصيدة الحسية تُصور المجرد من الفاصل بين الواقع والخيال. وإليوت يقول إن الأدب ينبغي أن يستخدم معادلاً رمزياً للانفعال الشعوري، والقصيدة سلسلة معادلات رمزية بديعة استشفها رسامو ما قبل الرافاييلية بحساسية عالية، ورسموها بشكلٍ يجبر الناظر على إعادة النظر والتفكير دائماً في سر خروج سيدة شالوت.
    أعتقد أن في مثل هذه اللوحاتُ ردٌ على من اتهموا ما قبل الرافاييلية والرومانتيكية بالسذاجة والمباشرة والضحالة.
    تعليقاتك الباعثة على التفكير مبعثٌ سرورٍ لي دائماً يا صديقي العزيز.

    تحياتي القلبية..

    ردحذف