10 مارس 2010

فيفا لا ميتا!

(كُنت قد جهزت هذه التدوينة لتًنشَر بعد شقيقتها "شارب الوغد" مباشرة، غير أن ردود الفعل على التدوينة السابقة جعلتني أفكر في حذفها أو في عدم نشرها. هذه الأفكار لا تعدو كونها أفكاراً عابرة، لأن تنفيذها معناه الإذعان إلى شكلٍ مُقَنَعٍ من أشكال الإرهاب الفكري الذي اتضح لي بما لا يدع مجالاً للشك أن كُل من يكتب معرضٌ له، سواء تحدث عن التابوهات الثلاثة، أو عن كرة القدم، أو عن برامج التلفاز. بهذه الطريقة، نُثير ضجة كبيرة حول شيء لا يستحق، وتُستنزف جهودٌ كبيرة كان يُفترض توجيهها نحو أشياء أكثر أهمية. ورغم أنني أؤمن بأن الجدل الذي ثار بسبب التدوينة السابقة ليس إلا زوبعة في فنجان - مع احترامي العميق والمبدأي لكُل المناقشات الإيجابية الجادة فيها، ولكل المعلقين الأعزاء على اختلاف آرائهم ومشاربهم وأساليبهم - يبقى أن حقي في أن أقول ما أشاء مقدسٌ لا يُمَس، وأن هذه تدوينة كتبتها لأنشرها في مدونتي الخاصة. قد تُغضب هذه التدوينة البعض، وهذا أمرٌ يؤسفني كثيراً لأنني أكره أن أضايق أحداً، لكن، لا بُدَ مما ليس منه بُد، لأنه إذا بدأنا بالامتناع عن إبداء الرأي في ما وراء الطبيعة لأننا قد تُغضب البعض، فسنمتنع غداً عن إبداء الرأي في كل ما نقرأ لئلا نسيء إلى محبيه، وسنمتنع بعدها عن إبداء الرأي فيما نُشاهد أو نسمع. الاختلاف واردٌ جداً، وقد يكون حاداً أحياناً، لكنه ضروري. مع ذلك، ينبغي أن أُذكِر بأنني ما كُنتَ لأستهلك مواردَ فكرية وإلكترونية في مناقشة شيء لا أحترمه ولا أعتقد بأهميته).
بعد أن ابتعدنا عن فاتني النساء والنساء المجنونات وحالة التلبس الرفعتي، يبقى في سلسلة ما وراء الطبيعة الحافلة بكثيرٍ مما يدعو إلى التوقف عنده لاستكناهه، ولم يكن مُمكناً الوقوف عليه كله مرةً واحدةً:
دليل الكاتب المبتدئ إلى تفادي اختبار مهارته الأدبية
واحدةٌ من العبارات التي تتكرر في السلسلة حتى توشك أن تصير (لازمة) وصف العلاقات المعقدة بين الشخصية في السلسلة بأنها "تحتاج إلى أديب من وزن دوستويفسكي ليكتب عنها"، وبذلك يتنصل الكاتب من أدنى التزامٍ للقارئ - والناقد - بأن يبين التفاصيل الدقيقة للعلاقات بين الشخصيات، ودوافعها الشخصية، ونوازعها الذاتية المعقدة، مما يضع القارئ في داخل العمل الأدبي، ويمكنه من أن يعيش "الحياة السرية" للشخصيات، التي يعتقدها إي. إم. فورستر السبب الوحيد الذي يبرر كون الرواية رواية! بهذه الطريقة، يكسب الكاتب شيئين: يتفادى الوقوع في متاهات بناء الشخصية المُرهقة، ويلبس قناعاً من التواضع الزائف يقطع الطريق على أي منتقدٍ من مبدأ أن "العبد الفقير إلى الله معترفٌ بالتقصير". لا بأس، فكل كاتب يكتب كما يحلو له، و(يتناص) مع النص والكاتب الذي يروق له. لكن أبسط حقوق القارئ أن يعرف إلى أي علاقة معقدة من علاقات شخصيات دوستويفسكي يُشير الكاتب، لذا كان من الواجب أن يُضاف هامش في كل مرة ترد فيها هذه العبارة، ليوضح للقارئ نوع العلاقة التي يبحث عنها بالضبط: هل هي علاقة الابن غير الشرعي بأبيه الحقيقي في المراهق؟ أم العلاقة بين راسكولينكوف والعجوز في الجريمة والعقاب؟ أم العلاقة بين الإخوة وأبيهم في الإخوة كارامازوف؟ أم؟ أم؟ أم؟............... فدوستويفسكي كاتبٌ غزير الانتاج، وكل علاقات شخصياته معقدة، مما قد يؤدي إلى ضياع القارئ في المتاهة الإنسانية العملاقة التي يمثلها أدب دوستويفسكي.
يُمكن للكاتب الناشئ أن يجد في هذه الطريقة ضالته التي تُريحه من إرهاق الكتابة، فيكتب عن معركة حربية قائلاً: "ويُمكن للقارئ الرجوع إلى الحرب والسلام لتولستوي، فهذه المعركة تحتاج إلى أديب مثله ليصفها."ويكتب عن حفلةٍ يكثر فيها الشرب ويسوء الأدب فيقول: "من قرأوا غاتسبي العظيم يعرفون هذا الجو المشوش الذي يفقد فيه المجتمع كله تركيزه." ويتحدث عن وحشٍ أسطوري يعيش تحت الماء فيقول: "إنه يُشبه آلهة لفكرافت التي تعيش في الأعماق، خصوصاً كُتُولو." وإذا خشي أن يكون قد نقل هذه العبارة بالمسطرة من ما وراء الطبيعة، فيُمكن له أن يقول: "إن من قرأ موبي ديك يعرف تماماً شعور آخاب حين ظهر اللوياثان الهائل، ولمعرفة ماهية اللوياثان، فيُمكن الرجوع للكتاب المقدس، وكتاب لوياثان لتوماس هوبز." وليس من الضرورة أن يكون قد قرأ كل هذه الأعمال، لكن ذكرها يعطي انطباعاً بسعة ثقافته، وقد يكون من بين قرائه قارئٌ فضولي لا تقر نفسه إلا بقراءة هذه الكتب، فيكسب أجر هدايته إليها، ويُصبح ذا فضلٍ عليه. كذلك، يُمكن للكاتب أن يختصر الحديث عن جريمة فيكتب: "وهذه الجريمة المعقدة تشبه الجرائم التي تتحدث عنها أغاثا كريستي، ولا يقدر سواها على حبكها، لذلك لن أضيع وقتي ووقت القارئ بالحديث عنها، باختصار: لقد كانت جريمة معقدة، وقد كان القاتل هو شلضم أبو خنفر."
لولا هوليوود!
لولا مدراء الإضاء والتصوير في الأفلام الهوليوودية - والمصرية أحياناً - وكذلك مخرجيها، لعانت سلسلة ما وراء الطبيعة عُسراً شديداً في إيجاد طرقٌ لوصف المشاهد وكيفية إضاءتها. لحسن الحظ أنه من الممكن الآن أن نصف الإضاءة على رأس البطل بأنها شبيهة بالإضاءة المسلطة على مارلون براندو في فيلم الأب الروحي، وأن الأشرار يُشبهون النازيين في الأفلام، وأن الجنائز في الليل تذكِر بمثيلتها في شيء من الخوف، وأن كل الزومبي يُشبهون الزومبي في الأفلام. صارت هناك مكتبة بصرية جاهزة لاقتباس مشاهد الهنود الحُمر والنيران المتوهجة تنعكس على جلودهم المدبوغة بالشمس، ومعارك الكاهن الأخير الشبيهة بمعارك بروس لي، ومشاهد الحملات في جبال الهيملايا.
قد سبق الحديث عن الأصول السينمائية للسلسلة، وهنا لا نقصد أكثر من تحية هوليوود ومخرجيها ومصوريها ومدراء إضاءتها.
وانت مالك؟
كادت أغاثا كريستي تُطرد من نادي كُتاب الجريمة لأنها خرقت قاعدة صارمة في الأدب منذ عهد أرسطو: يجب أن يثق المتلقي بالراوي، في روايتها الكلاسيكية مقتل روجر أكرويد. مسوغات الطرد كانت أن كريستي قد هزت أُسس أدب التحري التي تقوم على أن يعرف القارئ المعلومات التي يعرفها المحقق أو الراوي كاملة. مع ذلك، لم تُطرد من النادي، ولم تعد الكرة، وبقيت رواية مقتل روجر أكرويد عملاً كلاسيكياً.
في ما وراء الطبيعة، ينتهج رفعت إسماعيل النهج ذاته، فيخفي المعلومات عن القارئ عمداً، كأن يقول إنه لم يتزوج في حياته ثم يتضح إنه تزوج وأنجب وضاع ابنه. أو يقول إنه التقى بفرانتز لوسيفر مراتٍ عديدة - لا تذكر السلسلة منها غير أربعٍ - ولا يهتم بتوضيح ملابسات هذه اللقاءات لقرائه، بل يكتفي بالقول - بغموض - إنه صار يعرفه لكثرة لقاءاتهما. ويتكتم على لعبة تبادل الأرواح بينهما التي بشر بها في العدد الثالث. هُناك أيضاً طريقة رفعت إسماعيل التقليدية الفظة في صرفِ فضول القراء حول زواره أو أعماله بالقول إن ذلك ليس من شأنهم، فليس من شأنهم معرفة من تكون ريم أو كيف صار صديقاً للكينونة وما هي. وأكثر من ذلك، يُضللهم عامداً طول الخط، فيقول إن خريولسن هو لوسيفر، ثم يقول إن خريولسن الماشي في الظلال، وبعد ذلك يقول إنه سجين الزنزانة الذي أطلقه. الحال هُنا إما أن رفعت كذاب مرضي، أو كثير النسيان، أو أن كلمة "خريولسن" تعني مسخاً ويُمكن أن تُطلق على أي شيء خارق في السلسلة.
يبدو أن السلسلة ستنتهي من دون أن تغلق أياً من جيوبها المفتوحة، ورفعت إسماعيل قادرٌ على هذه الفظاظة. كما أنه لا يوجد نادٍ لكتاب التشويق يُمكن أن يُطرد منه المرء لو ضلل القراء أو أخفى عنهم المعلومات عمداً.
ديجا فو!
تتكرر عبارات كثيرة في ما وراء الطبيعة بالنص، فغير عبارة التعريف بالنافاراي المعتادة: "حين تغرب الشمس، وتلطخ دماؤها ثوب المساء الأزرق......." - مع التحفظ على الكناية الدموية المتناقضة مع الهدوء والسلم الذي يُفترض تلازمهما مع عقيدة النافاراي - وجملة فرانتز لوسيفر الأبدية: "إني بك أسعد، ولك قلبي يطرب." - التي كان يُفترض بها أن تُصيب شخصاً ملولاً مثل رفعت "بنزفٍ مخي" منذ زمن بعيد - تتكرر عبارات أخرى في السلسلة بشكلٍ غريب. هناك عبارة رفعت إسماعيل المحفوظة عن حبه للأطفال وهم رُضع، وعن كراهيته لهم عندما يبلغون السن التي تتلوث فيها ركبهم بالميكروكروم. تتكرر هذه العبارة بنصها في كُل مرة يُقابل فيها رفعت طفلاً، وأكثر من هذا، ضلت هذه العبارة طريقها إلى واحدة من مقالات الكاتب بالنص، من دون تغيير كلمة.
عندما كنت أدرس، أخبروني عن اختراع لغوي يُسمى إعادة الصياغة، فمن غير المقبول - جمالياً - تكرار نص: "يذهب أحمد إلى المدرسة كُل يوم" في كل مكان، بل يجب إعادة صياغته في كل مرة يتكرر فيها، كأن يُقال: "حضور أحمد إلى مدرسته منتظم." أو: "لا يتغيب أحمد عن مدرسته أبداً." مع تردي المستوى التعليمي المستمر، لن أستغرب إذا اتضح لي أنهم كانوا مخطئين.
وغير تكرر العبارات بالحرف، هُناك أيضاً تكرارٌ غريبٌ للأفكار. فمُعظم الأفكار التي تولد في ما وراء الطبيعة تجد طريقها إلى إصدارات أخرى، فنجد - على سبيل المثال - البانشي التي يُعاقب بها الساحر الإفريقي رفعت إسماعيل في الأبجدية تتكرر مع محفوظ حجازي في الآن نفتح الصندوق بنفس الأحداث والوقائع، كما تتكرر مغامرة القرين مع الاثنين. هُناك قصصٌ أخرى من خارج ما وراء الطبيعة تتكرر بحرفيتها في أماكن أخرى، لكن موضع اهتمامنا الرئيسي ما وراء الطبيعة.
سوق الأسهم
كما أن سوق الأسهم يصعد ويهبط فجأة، ويمر بفترات ركودٍ دورية، تمر السلسلة بفترات ركودٍ من فترة لأخرى، فتصدر سلسلة أعداد متميزة، ثم تصدر سلسلة أعدادٍ لا ينطبق عليها الوصف السابق، إلى أن يأتي عددٌ يُعيد الدائرة الإيجابية. آخر الدوائر الإيجابية كانت تلك البادئة مع العلامات الدامية والمنتهية في الطوطم. مشكلة ألا تنحسر موجة الركود في المدى القريب للإصدارات، لأن السلسلة شارفت على النهاية، وهناك الكثير من الجيوب المفتوحة التي تنتظر غلقها. كما يُقال: "الأمور بخواتيمها."، ولا نتمنى لعقدين من المغامرات الساحرة إلا خاتمة على ذكرى جميلة لعقدين من الرعب.

هناك 3 تعليقات:

  1. جامد

    هل فكرت في رد فعل دكتور أحمد نفسه حال قراءة تدوينتيك في نقد سلسلته ؟
    :))

    ردحذف
  2. :-)))
    سعيده بالتدوينه كما هو متوقّع و سعيده أكثر بقرارك نشرها رغم كل التعليقات الغير متوافقه مع التدوينه السابقه :)ا

    ردحذف
  3. هممم . .
    جميل جدًا كالعادة ،
    مُعظم ما ذكرته خاصةً فيما يتعلق بأمر استعانته بشكل متكرر بوصف من مصدر خارجي كـ علاقات ديستوفسكي ، و قضايا أجاثا كريستي لإعطائك الإيحاء . .

    يُمكن القول بأن السلسلة تستخدم الدكتور رفعت كشخص يحدثنا بأريحية أكثر مما ينبغي . .
    يحكي لنا ما يَشاء و حتى يوفر على نفسه عناء الوصف ، يساعدنا بذكر مصادرٍ أخرى ، قد نفعلها نحن كثيرًا ..

    و إن كنت أراها عيبــًا في السلسلة لاعتماده عليها معظم الأحيان ..

    أُبدي إعجابي الشديد بقدارتك التحليلية و النقدية :)

    و راقتني التدوينة السابقة كذلك . .
    بما فيها الردود و النقاشات ،
    رُبما شابها بعض الحِدة قد تُفسر بالتحامل على الدكتور أحمد، و لكن نقدك كان بالمنطق و مُرفق بالدلائل ،
    و مَن أراد الاعتراض كان عليه الرَد بنفس الأسلوب . .

    سعيدة أنه يُوجد من يحلل السلسة بهذا الشكل ، أفضل من وضعها تحت بند القراءة الخفيفة و تجاهل أي تحليلٍ أو نقد قد يُوجه لها . .

    أتمنى المزيد D:

    ردحذف