21 مارس 2009

الأدغال

مشهد غابة غرائبي، هنري روسو(مشهد غابة غرائبي، هنري روسو)

وطأة الأدغال في قلب الظلام ثقيلة كوطأة التعمق في ضميرٍ سودته الخطايا. الأدغال المظلمة المنسية في وجودٍ بدائي لأرضٍ بلا قانون أو رب مكانٌ للتجرد من كل خرق الرياء الإنساني للاعتراف بالخطايا التي أدانها الخاطئ بين الناس، وارتكبها في غفلةٍ عنهم. الأدغال هوةٌ كهوة جهنم، ليس فيها من يعود ليشهد على الخاطئ بين البشر، فتجعله يقر بإثم قلبه كما فعل غويدو حين اعترف بخطاياه التي ألقته في جهنم لدانتي:
لو حسبت سائلي عائداً إلى الدُنيا، ما أجبت
غير أن حياً لم يعد من هذه الهوة،

لذا أجيبُ بغير خشيةٍ من عار


في اختراقه لقلب الظلمة، يلمح مارلو أشكالاً في الأدغال بين الأشجار. أشكال غير بشرية، لكنها توحي بقرابة مخيفة بين المتمدنين والبدائيين. لغة أشباح الأدغال كانت مجهولة، أهي لعنة، صلاة، ترحيب، طرد. غير أن الأدغال المسحورة المكان الذي تسقط فيه كل الخرق التي تستر سوأة الإنسان المتمدن لتكشف همجيته. الآخر، شبح الأدغال، ليس إلا أنا ينظر إلّي.
في لوحات الرسام الفرنسي هنري روسو تحضر الأدغال حضوراً مشابهاً لحضورها في أعمال
جوزيف كونراد. الأدغال البدائية المسحورة مليئة بوجوهٍ مجهولةٍ ترقب من قلب الظلام، ولا يعرف الرائي كُنهها أو ما قد تحمله له. هناك خطرٌ في كل خطوة، وخوفٌ يُحركه كل شبحٍ يطل من وراء أغصان الأشجار المتشابكة. خوفٌ من الآخر البدائي، الآخر الحيواني. خوفٌ يخفي خوفاً أعظم: أن يكون الشبح البهيمي في الأدغال أنفسنا تنتظرنا لتواجهنا بكل قبحها في هوةٍ لا عودة منها.

هناك 3 تعليقات:

  1. رائع. رائع جدّا يا صديقي.
    أحيانا أتخيّل أن الأدغال كانت أوّل ما خلق الله على هذه الأرض. فيها غموض. استدعاء للدهشة. للخطر. للسحر. هي بمعنى ما تجسيد للبكارة الأولى التي أعطت للأشياء والكائنات منذ الأزل شكلها وكنهها.
    ذكّرني حديثك عن لوحات روسّو بلوحات ارشيمبولدو الايطالي. حيث تتحوّل الغابات والأنهار والأشجار إلى صور دلالية وسيكولوجية.
    للجبال أيضا صورها الذهنية ورموزها واستعاراتها الكثيرة. يقال في بعض الأحيان أنها بوّابات إلى عوالم أخرى قد لا نتبيّنها أو نشعر بها نظرا لقصور مدركاتنا وأحاسيسنا..
    احزن عندما لا اقرأ مثل هذه التجلّيات العميقة في أدبنا أو تراثنا. يظهر أن للتضاريس والطبيعة دورهما في الثقافة وفي تشكيل المخيّلة.
    مع خالص التحية.

    ردحذف
  2. رائع. رائع جدّا يا صديقي.
    أحيانا أتخيّل أن الأدغال كانت أوّل ما خلق الله على هذه الأرض. فيها غموض. استدعاء للدهشة. للخطر. للسحر. هي بمعنى ما تجسيد للبكارة الأولى التي أعطت للأشياء والكائنات منذ الأزل شكلها وكنهها.
    ذكّرني حديثك عن لوحات روسّو بلوحات ارشيمبولدو الايطالي. حيث تتحوّل الغابات والأنهار والأشجار إلى صور دلالية وسيكولوجية.
    للجبال أيضا صورها الذهنية ورموزها واستعاراتها الكثيرة. يقال في بعض الأحيان أنها بوّابات إلى عوالم أخرى قد لا نتبيّنها أو نشعر بها نظرا لقصور مدركاتنا وأحاسيسنا..
    احزن عندما لا اقرأ مثل هذه التجلّيات العميقة في أدبنا أو تراثنا. يظهر أن للتضاريس والطبيعة دورهما في الثقافة وفي تشكيل المخيّلة.
    مع خالص التحية.

    بروميثيوس

    ردحذف
  3. وتعليقك غاية في الروعة، يا صديقي.
    أحياناً أتخيّل شيئاً قريباً مما تخيله، وأتخيل أن الحالة المُطلقة للوجود هي الأدغال. رُبما لذلك كانت الأدغال موجودة بكثرة في إفريقيا وفي حوض الأمازون حول أنهارٍ خرافية كأفاعي عملاقة تأتي بالمجهول وتقود إليه. هُناك الحياة الإنسانية البدائية على فطرتها، ما يُذكرني برواية لإيزابيل أليندي تذكر فيها مُبشراً أُرسل إلى حوض الأمازون ليهدي القبائل البدائية هُناك، فتخلى عن مهمته لأنه وجده صعباً أن يُعلم قوماً لا يعرفون مفهوم الخطيئة كيفية التوبة. سيكون عليه أن يعلمهم الخطيئة الأصلية، وبالتالي سيُفقدهم براءتهم التي خلقهم الله عليها، وسيقودهم إلى الظلمة بدلاً عن النور. لذا أفسد التدخل البشري إفريقيا وجعلها لطخة دامية في تاريخ البشرية لا تزال تنز دماً إلى الآن. لقد دمر (المتحضرون) الفطرة الإفريقية التي تلائم الأدغال بأردية حضاراتهم وأديانهم المستعارة فأفسدوا التوازن القائم بين الإنسان والطبيعة، وبكارة الطبيعة الأولى.
    يُذكرني هذا بهروب غوغان إلى تاهيتي ليعيش الحياة البدائية كما هي. رُبما لم يختر الأدغال، لكنه هجر أوروبا، الدين قد يكون ملائماً في أوروبا، لكنه في تاهيتي خطرٌ على حياة البدائيين.
    جميلٌ ذكرك لأرشيمبولدو الذي يُقدم واحداً من الأدلة على حداثة الفن غير المرتبطة بالزمان، ففي زمانه السابق كان أكثر وعياً بالحاجة إلى شيء أعمق ليدل على ما يعتمل في نفس الإنسان وعلاقاته بالكون والوجود أكثر بكثير من مجرد إعادة رسم ما يظهر للعين. بشكلٍ أو بآخر حاول أرشيمبولدو العُبور إلى جانب المثل الذي تحدث عنه أفلاطون.
    صورة الجبال كبواباتٍ إلى عوالم أخرى التي ذكرتها قادتني إلى التفكير في الجبل الذي تحدث عنه ابن خفاجة في قصيدته عن الجبل، حيث تحول الجبل إلى شاهدٍ مستمر على التائبين والخاطئين والعابرين، وصار خلود الجبل واستمراره الدائم على وجه الأرض فيما يرحل العابرون في ثناياه مبعثٍ ألم له. حيث يقول الجبل:
    وما غيض السلوان دمعي وإنما
    ذرفت دموعي في فراق الصواحب
    ثم يضطر الشاعر إلى الرحيل عن الجبل هو الآخر، بعد أن فتح له الجبل قلبه وناجاه، لأن الشاعر أيضاً زائلٌ والجبل باقٍ.
    البحر كذلك واحدٌ من أكثر التضاريس غموضاً في الوعي الإنساني، فالبحر عالمٌ آخر بحد ذاته يحمل الخطر والثراء، ويمثل المجهول دوماً.
    ما قلته صحيح، فالطبيعة تلعب دوراً هاماً في تشكيل المخيلة الفنية. عندنا في الثقافة العربية تلعب الصحراء دوراً هاماً في تشكيل مخيلتنا الجمعية، وتعكس نفسها بصورٍ لا يسهل توقعها. فن الزخرفة العربية يقوم على تداخل تشكيلاتٍ نباتية بشكلٍ معقد يوحي بامتدادها اللامنتهي، فهي شكلٍ واحد ممتد إلى ما لا يوحي بنهاية كامتداد الصحراء ورمالها.

    لا يكتفي المرء من الحديث في المواضيع الهامة التي تثيرها دوماً بنقاشاتك الغنية، بروميثيوس.

    تحياتي القلبية..

    ردحذف