01 مايو 2009

خضراء بلا لون

رغم أن الجميع - في المستعمرة - في حالة نكران للهوة التي تفصل بين جيلنا والأجيال السابقة، إلا أن مناسبة جديدة تحدث كل يوم - تقريباً - لتُذكرنا بأننا مختلفون - تماماً - حتى في تفسيرنا لأبسط العبارات. واحدة من هذه المناسبات - التي ظهرت فيها الفجوة الهائلة بين جيلنا وجيل أساتذتنا - كانت عندما قرر كبير المستعمرة الذي علمها السحر أن يُقدم إلينا عبارة نعوم تشومسكي الشهيرة التي فتنت جيله كمثال على العبارات السليمة لغوياً والتي لا تحمل أي معنى - كُنا نعرفها من قبل، بطبيعة الحال، لكنه أجبرنا على الإقرار بأننا لم نسمع بها:
الأفكار الخضراء بلا لونٍ تنام غاضبة.
Colourless green ideas sleep furiously.
مضى الدكتور في شرحه عن لا منطقية العبارة ولا جدواها رغم أنها سليمة من الناحية اللغوية، واصفاً إياها بأنه نوع من الكلام الفارغ الذي لا يُفسر ولا قيمة له، غير أنه قوطع مراراً حتى رضخ للأمر الواقع وسمح لنا بالتكلم لنعارض وجهة نظره تماماً. في الواقع، هذه العبارة واضحة ومفهومة ويمكن أن يكتبها أي صحفي مبتدئ في أي جريدة على وجه الأرض.
لكن، كيف ذلك؟ كيف تكون الأفكار خضراء وتكون بلا لونٍ في الوقت نفسه؟ كيف تكون الأفكار ملونة؟ كيف تنام؟ كيف تنام غاضبة؟
المسألة وما فيه أن هذا مجاز شائع الاستعمال حتى صار مستهلكاً وصار بديلاً للكلمات الأصلية. الجميع يعرف الطيف السياسي، المجاز صار العبارة الدالة على كنه الشيء. ماذا عن الأفكار الخضراء؟ هذا أكثر المجازات شيوعاً في الزمن الحاضر، الأفكار الخضراء المعتقدات البيئية. العبارة التي فتنت أجيالاً سابقة بلا معقوليتها تعني ببساطة:
أُحبِطَت التوجهات البيئية غير المُجيرة سياسياً مما أحنق الناشطين البيئيين.
بعد مناقشات ومناوشات، أقر الدكتور بأن في تفسيرنا للعبارة وجاهة، لكننا عدنا لنعترض، فالمسألة ليست تفسيراً وإنما المعنى الحرفي للعبارة فيما لو وُجدت مكتوبة على غلاف نيووزيك مثلاً! لا أحد سيُفكر في أي تفاسير أخرى - لا أحد من جيلنا على الأقل.
في مرحلة ما، حدث انقلاب في المعايير اللغوية والدلالية جعل ما فتن الأجيال الماضية صيغة مستهلكة من البلاغة الصحفية اليوم، وما أحنقهم الأمس محل تقدير اليوم. سنة الخلق.

هناك تعليقان (2):

  1. أهلا بك يا صديقي.
    موضوع جميل كعهدي بك.
    طبعا اعرف تشوميسكي وقرأت الشيء اليسير عن نظرياته في اللسانيات وكذلك مقالاته السياسية. لكن هذه أوّل مرّة اسمع فيها بتلك العبارة ونسبتها إليه.
    تأمّلت فيها مليّا قبل أن استأنف قراءة المقال وصدقا لم افهم دلالتها ولا مغزاها. لكن أعجبني الشرح الذي قدّم لها في نهاية الموضوع. وجدته مقنعا ومنطقيا.
    وأتصوّر أن طرحها بعيدا عن سياقها الذي قيلت فيه، أي الاهتمامات البيئية، يجعل من الصعب بل من المستحيل على الذي يقرأها لأوّل مرّة أن يفهمها ويستوعب معناها المجازي.
    لم أكن أظنّ من قبل أن تشوميسكي بارع في المجاز وتلوين ونحت الكلمات إلى هذه الدرجة.
    تحيّاتي ومودّتي.
    بروميثيوس

    ردحذف
  2. مرحباً بك بروميثيوس..
    وحضورٌ جميلٌ كعهدي بك.
    أعتقد أن تشومسكي ابتكر عبارته هذه في معرض محاججته لبعض علماء اللغة ممن يرون أن سلامة تركيب الجملة يعني أن الجملة توصل معنى مفيداً، فابتكر لهم عبارة لا عيب فيها من جهة تركيب الجملة وترتيب الكلمات، غير أنها لا توصل فكرة، فضلاً عن كونها غير منطقية بالمرة. جملة تشومسكي لم تُطرح في سياقٍ بيئي في البداية، بل طُرحت كجملة قائمة بذاتها. فلو قيل مثلاً:
    الأرض الخضراء تمتد جميلة.
    لأدت الجملة معنى قائمة بذاتها، من دون تقديمها في سياقٍ مُحدد. لكنها تُحيل على مرجع خارج اللغة في العالم الواقعي. بينما الأفكار لا تُحيل على مرجع، لأن الأفكار ليست من المحسوسات كالأرض أو الأشجار أو الجبال، وعليه فلا مرجع لها خارج اللغة.
    هذا في الاستخدام الطبيعي للغة، الاستخدام الذي تتولد الدهشة الشعرية من مفارقته. غير أن الصحافة امتهنت المجاز الشعري فأضفت على العبارات والإحالات الشعرية معاني جامدة متخشبة نزعت الدهشة والجدة حتى عن عبارة تشومسكي الشهيرة.
    عندما تتحدث نشرة الأخبار عن الطيف السياسي، فالطيف السياسي لم يعد مجرد مجازٍ شعري خارج عن الاستخدام، بل عبارة محددة تُحيل على مرجعٍ خارج اللغة: الأحزاب السياسية لبلدٍ مُعين. كثرة الاستخدام أزالت عن اللغة جدتها، ورُبما منطقيتها حتى. الأمر الذي جعل عبارة تشومسكي الشعرية - نوعاً ما - تبدو عقيمة ومبتذلة لي ولآخرين أفسدت كليشيهات الصحافة لغتهم.
    الأمرُ ليس مقتصراً على العربية فحسب، بل يتعداها إلى الإنكليزية. ورغم أنني لا أجيد لغاتٍ أخرى، إلا أنني أجرؤ على القول إن هناك لغاتٍ أخرى تُعاني وبال اجترار الكليشيهات وحرق المجازات كما تعاني العربية والإنكليزية.
    تحياتي القلبية..

    ردحذف