08 مايو 2008

حيرة فاوستوس النهائية

Sic probo…
يرن صوت فاوستوس في قاعات الجامعة الباردة، "هكذا أثبت..."
هكذا أثبت في العقائد، وهكذا أثبت في الطب، وهكذا أثبت في القانون، وبهذا المنطق أثبت ما سبق. يتحمس الطُلاب الذين ستطوي الحياة معظمهم، بينما سيصل قلةٌ منهم إلى مقعده، وربما لن يكون أحد مثله. الإثباتات موجودة، ومنطقه سليمٌ لا يداخله فساد. ثقته التي تصل حد العجرفة معديةٌ. إنه هو. جون فاوستوس، العالم الذي وصل إلى حيث يُريدُ كُل زملائه. عالم اللاهوت ذي الحجة التي لا تبطل، الطبيب الذي أنقذ مُدناً من الأوبئة وعُلقت وصفاته الطبية على مداخلها احتراماً، رجل القانون الذي يعرف كُل دهاليزه. أغاية المنطق أن يُجادل جيداً، فحسب؟
لا أحد يستطيع دحض ما يقوله، لكنه وصل إلى الحافة الأخرى. لم يعد يؤمن بما يقوله. يعيش في عزلةٌ قاتلة لأنه غير قادرٍ على إقامة صلةٍ عقليةٍ وروحيةٍ مع من حوله، لذا تناوشته شكوك عزلته التي تزيدها عجرفته استعصاء على الاختراق، رغم أنه – في أعماقه – رجلٌ طيبٌ، مخلصٌ، ينطوي على شيء من سذاجة. وصل إلى القمة، وهناك أرداه الشك، وأجهز عليه الطموح.
طموحه لا ينتمي إلى عالم البشر، فقد تجاوز لوسيفر الذي رماه طموحه عن وجه السماوات. يُريدُ أن يكون إلهاً يحيي ويميت ويسخر الريح. رغباتٌ شعريةٌ لروحٍ قلقةٍ متطلعة إلى الخفي. ماذا هناك في الناحية الأخرى؟ ماذا لو جرب الثمرة المحرمة، ثمرة السحر. روحه روح شاعرٍ، وستقوده إلى الحدود القصوى.
يحاور فاوستوس نفسه أكثر مما يحاور من حوله، ويدعو أصدقاءه من ليسوا كذلك. يواصل حواره الداخلي فلا يعي إشارات مفستوفيليس له، ويتحدى التحذير الأخير الذي يُكتب على ذراعه. استهلك اللاهوت حياته كلها، وما أعطاه غير حيرةٍ قاتلة: The reward of sin is death، وإذا ادعينا أننا بلا خطيئة، فإننا نخدع أنفسنا، ولا حقيقة فينا. فاستبدله بالعلمِ المُحرم عله يجد بعض حقيقة. هو خاطئ، وسيظل. بماذا ستضره الخطيئة القصوى إذا كان قد قُدر له أن يكون كذلك؟ ستجعله يقضي في الجحيم مُدة أطول من محكوميته الأصلية؟
لينقذ نفسه من التخبط في الحيرة، ألقى بنفسه تماماً في اتفاقيته مع الشيطان، وأوفى بكافة عهوده. فاوستوس لا يخاتل ولا يخون. سيفي بكافة التزاماته، وبالمقابل يتوقع من مفستوفيليس أن يفي بالتزامه. سيصبح رفيقه الدائم لأربعة وعشرين عاماً قادمة، ولأول مرة في حياته سيكون له صديقٌ يستطيع إطلاعه على دواخله. منذ البداية عامل فاوستوس مفستوفيليس كصديقٍ له. لم ينتبه إلى تحذيراته المبطنة، وإلى تصريحاته بأنه خادم لوسيفر فقط. ودون أن يُدرك، صار رهينة لوسيفر ومفستوفيليس الذين خرقا العقد، ولم يُكسباه غير الوهم والظلال. رغم أنه تعرض للغش، إلا أنه لم يُطالب بفسخ العقد، وبقي محافظاً على جانبه فيه. لا بدافع الخوف فقط، بل لشجاعته وشعوره بمسؤوليته عن العقد الذي وقعه. الإله عادلٌ، ويعرف أن فاوستوس قد وقع روحه للوسيفر. الإخلال بالاتفاق يُنافي العدل، وعقله يُقيم العدل، غير أن روحه تطلب الرحمة.
في حيرته النهائية، ظل يتخبط بين الظلال والأوهام مُدركاً أنه لم يعُد هو نفسه. العدل يُنافي الرحمة كما يراه، والخير والشر صنوان طالما أنهما مُقدران من ربٍ واحد. في النهاية، لم يعد أمله إلا أن يكون لعذابه في النار نهاية ولو استمر لعشرة آلاف سنة. المُهم ألا يخلد فيها، فالخلود فيها منافٍ للعدل، لأن خطيئته كانت عقداً استمر أربعةً وعشرين عاماً فقط. يعي انتهاء الزمن، لكنه - تحت وطأة نفاده – يفقد اتزانه، وتقتله الحيرة. فالعدل الصارم ليس خيراً مُطلقاً، ولا الرحمة كذلك. وحين يكاد يعزم على طلب الرحمة، لا تخرج منه غير الحسرة..
"آه! مفستوفيليس!"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق