03 يوليو 2008

Functional English

كنت أخطط للكتابة عن المادة التي أكرهها كما لم أكره مادة أخرى منذ دخلت مستعمرة الهنود بوصفها - رغم كونها بغيضة - مدخلاً للتأمل والتفكير - والأفكار التي أوحت لي بها الشيء الوحيد الذي يجعلني أتقبل فكرة الساعات التي أمضيتها في دراستها -، غير أن عادة الرياح أن تجري بما لا تشتهي السفن، فامتحان هذه المادة اليوم يغريني بأن أكتب مذمة طويلة في المادة وفي من يُدرسها، وهذا أمرٌ جلل، فلستُ من هواة انتقاد أساتذتي.
يعني اسم المادة الإنكليزية الوظيفية، أو كما في جدول المواد: الإنكليزية التطبيقية، وكلاهما ترجمتان لاسمٍ يفتح الباب واسعاً أمام التأمل في وظائف اللغة، غير أن الاسم خدعة، فالمادة ليست إلا المراسلات التجارية والرسمية وكتابة السير الذاتية ورسائل التغطية. (يزينها) قول مدرس المادة أنه إنما يُدرسها لتلاميذ لا يُميزهم شيء، أما المميزون فلا يحتاجون أي سيرٍ ذاتية أو مراسلاتٍ رسمية: "المميزون يفرضون شروطهم، أما الباقون [أنتم] فيخضعون لقواعد مربكةٍ ومعقدة في المراسلات الرسمية والسير الذاتية، ويهدفون فقط إلى إرضاء مستخدميهم".
في سنتنا الأولى داخل مستعمرة الهنود كنا كالغنم - وما زلنا كذلك بشكلٍ أو بآخر - ثم بدأنا نقرأ الأدب حقاً، ونطلع على سير استثنائيين منهم: رالف والدو إمرسون، هنري ديفد ثورو، إميلي ديكنسون، كريستوفر مارلو، جون ميلتون، وفرجينيا وولف. كلهم شجعان متمردون خرجوا عن العرف والقواعد واختطوا لأنفسهم نهجاً لم يسمحوا لأي كان أن يقيدهم فيه. كل منهم قدم شيئاً جديداً مختلفاً، ولم يلق بالاً إلى أي مستخدمين، قراء، سلطات من أي نوعٍ كان. الأدب يعلم الإنسان أن يتمرد ليكون ذاته، فكيف تسول لهم أنفسهم حبسنا هكذا بعد أن قويت فينا بذرة التمرد؟
سيق إلينا تبرير أول عندما أُعلن عن إضافة هذه المادة إلينا، أننا - وقد بلغنا من الكبر مبلغنا - نعجز عن كتابة رسالة رسمية لائقة إلى إدارة المستعمرة فتجد أحدنا يكتب لكبيرنا تظلماً بهذا الشكل:
Dear Dr. X,
Good morning.
How are you?
I hope my letter will arrive while you are in good health and state.
Dear sir, I would like to draw your attention to my grades that I feel unjust.....
وتحتفظ إدارة المستعمرة بهذه الرسالة (النموذج) وبرسائل أخرى على ذات النمط بين وثائقها السرية التي ستعرض للجمهور بعد ثمانين عاماً.
قالوا لنا أن هذا النموذج في الكتابة إلى رئيس القسم ليس خاطئاً فقط، بل معيباً أيضاً لأنه يخلو من أي نبرةٍ رسمية ويتحدث مع رئيس القسم بصفته الشخصية لا بصفة منصبه، بينما ليس المهم في المراسلات الرسمية الشخص وإنما المنصب الذي يشغله، لذا ينبغي علينا أن نوجه رسائلنا إلى العميد، رئيس القسم، المسؤول الفلاني... من دون أي تحديدٍ لأي أسماء، وبدون أن نسأله عن صحته ونتمنى أن تصله رسالتنا وهو في أتم الصحة والعافية!
النموذج الجديد باردٌ وناءٍ، وفوق ذلك يُطلب منا أن نجعل نبرة الرسالة مهذبة تهذيباً أدنى إلى الإساءة كما أرى، فنحن لا نخاطب بشراً وإنما نخاطب آلات. البشر يصابون بالصداع ويرسب أبناؤهم في المدارس ويعانون من ارتفاع الأسعار، أما هذه الرسائل فتفترض أنهم لا يعانون من أي مشاكل، وأنهم مستعدون للتعامل بفعالية مع أي رسالةٍ باردة تصلهم.
قد يكون هذا ما ينبغي في مراسلات الأعمال التجارية، لكننا حين نراسل رئيس قسمنا نشعر بالخجل من أن نتعامل معه بهذه الطريقة التي تخلو من أي حساسية بينما نعرف قدر المجهود الذي يبذله في القسم، وتأثيره الفادح على صحته. هذه المادة الباردة لا تقدر أننا نأمل دائماً في أن يؤثر دعاؤنا الغيبي إيجاباً على صحة مستقبل رسائلنا فيصبح بخير، وأن يشعر بتعاطفنا معه وتقديمنا صحته وسلامته على أي مشاغل دنيوية أخرى، بوصف احترام الذات البشرية لتفردها الإنساني قيمة مطلقة السمو في الحياة.
تصر الإنكليزية الوظيفية على أن نستخدم الكلمات بمعناها المباشر، لا مجازات مسموحة في اللغة، لا تبريرات، لا إطناب. اقتصادٌ تام في اللغة، واستخدام لأبسط مفرادتها أحادية المعنى والدلالة بحيث تتجرد من أي إيحاء غير الإشارة المباشرة إلى أشياء مادية خارج اللغة: نقود، نقود، نقود!..
هذا مفهوم فلسفي، فالمال بوصفه عصب الحياة المادية يمثل فلسفة. والاقتصاد في اللغة الذي يحولها إلى مجرد وسيلةٍ للإشارة إلى المادة فلسفة تعطي مدخلاً للتفكير في سياقات اللغة المختلفة ووظائفها.
لغة المراسلات الرسمية هي النقيض التام للشعر. انقلاب الماديين على وعورة اللغة وتمرد أخيلتها والأقاصي التي تقود إليها بوصفها كائناً حياً محولين إياها إلى أدوات إشارةٍ عديدة وظيفتها إعلام القارئ بأننا نتحدث عن: كمبيوتر دل إنسبايرون 6400 بمعالج مزدوج النواة من إنتاج إنتل بسعر ألفي دولار للوحدة - كما جاء في امتحان اليوم - لا أكثر ولا أقل.
مشكلتي مع الإنكليزية الوظيفية - التي آمل التخلص منها إلى الأبد - أنها تدفعني للتفكير في كل شيء يختلف عنها. افتراضها الرئيسي - في السياق الذي ندرسه - أننا مجموعة من الروبوتات التي تخلو من أي شعورٍ وتفكير، أو أننا مجموعة بشرٍ تامي الترويض بحيث نخلوا تماماً من أي شعور. الواقع يخالف هذا الافتراض تماماً، لذا يُمطر التلاميذ معلمهم دوماً بمختلف الأسئلة - التي يراها غبية - بينما تعكس ذعراً عاماً من جمود لغة الرسميات وخلوها من الحياة.
آمل أن أحصل على درجاتٍ جيدةٍ في الامتحان لأنني لا أريد لهذه المادة القاحلة أن تقف في طريقي، لكنني أعرف أنني أشبه فلورنتينو أريثا بشكلٍ أو بآخر، ولن أستطيع يوماً كتابة رسالة رسمية مهما حاولت.
ربما يحتاج الأمر حباً عظيماً لكتابة رسالةٍ تصل في اقتصادها اللغوي وتجردها الشعوري الحد الذي تتطلبه رسالة عملٍ مثالية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق