19 أبريل 2008

بيوولف: نهاية عهد الأغاني

ملحمة بيوولف أقدمُ أثرٍ معروفٍ للأدب الإنكليزي القديم، مكتوب بالإنكليزية القديمة التي تختلف عن الإنكليزية الوسطى والحديثة، وتقترب من الأنكلو-فريجية كثيراً. ولأنها آخر عهد الأبطال الوثنيين مع بداية انتشار المسيحية، فإنها مجالٌ خصبٌ للإبداع في مراوحتها بين المنسي والذي أُعيدت كتابته، وكونها آخر رحلةٍ معروفة لبطل. الأفلام عن بيوولف ومعركته مع غريندل نيابة عن الملك السكندنافي هروثغار كثيرة، وزادت نسبياً في السنوات الأخيرة: بيوولف وغريندل (2005)، غريندل (2007)، وبيوولف (2007) الذي يحمل توقيع روبرت زيميكس صاحب فورست غامب. الفيلم الأخير هو الفيلم الذي شاهدته مؤخراً، وحقدت كثيراً على هيئة تصنيف الأفلام الأمريكية لأنها أعطته تصنيفاً مُسالماً كتصنيف PG-13 بينما يستحق الفيلم R بامتياز مع تحذير للذين يمقتون الانفجارات الدموية المقززة، والوحوش التي تثير الغثيان.
يروي الفيلم عن قاعة الميد التي يُنشئها الملك السكندنافي هروثغار بعد خمسمائة سنةٍ من الميلاد للبهجة والسكر وارتكاب كُل ما من شأنه أن يُغضب إله المسيح، بينما لا يُضايق أودن إله السكندنافيين ألبتة. غناء حاشية هروثغار يضايق الوحش الذي يسكن أراضيهم، غريندل، ويدفعه للخروج من مخبأه ليعمل فيهم تقتيلاً بأبشع طريقة، لكنه يتراجع أمام الملك هروثغار الذي يكاد لا يستطيع الوقوف لشدة ثمله.

يُنادى في أنحاء سكندنافيا بالبلاء الذي حل على أرض الملك هروثغار، وبحاجة الأرض إلى بطل. يأتيهم بيوولف مع مساعده ويغلاف وجيشه الصغير من المحاربين. وتبدأ ملحمة بيوولف. يطلب رجال هروثغار منه أن يتوسل إلى آلهة روما، لكنه يجيبهم بأنه لا يحتاج آلهة روما للقضاء على الوحش، لكنه يحتاج إلى بطل، بيوولف. القضاء على غريندل البائس لم يكن نهاية البلاء، فهناك أم غريندل التي يعتقد هروثغار أنها قد غادرت البلاد. آخر وحشٍ من سلالة الشياطين، وأصل البلاء. هروثغار يخفي سراً ثقيلاً، ويكشف بيوولف الذي يخفي سر الغواية أيضاً تحت ستار البطولة. لا هروثغار، ولا بيوولف قتلا الأم. لكن هروثغار أنجب منها غريندل، وبيوولف أنجب التنين. هروثغار يعرف جيداً أن بيوولف كرر خطيئته، ولأنه لا يُريد أن يشهد الشر من جديد، فإنه ينتحر في مشهدٍ مؤثر تاركاً عرشه وملكته ويلثاو لبيوولف الذي صار ملكاً كما وعدته أم غريندل.
في عهد بيوولف تبدأ المسيحية في الانتشار داخل مملكته، وتصل بلاطه، فيتحول أُنفِرث أحد رجال البلاط القدماء من عهد هروثغار إلى المسيحية، ويرعى ديراً على حدود الملكة، وكذلك تصبح الملكة ويلثاو مسيحية. قبل ذلك بسنواتٍ، كان هروثغار قد رفض اقتراح التوسل إلى إله روما ليدرأ عن بلاده شر غريندل، لأنه لا يؤمن بأنه يحتاج إلهاً، لكنه يحتاج بطلاً. مع مرور السنين، انكسرت البطولة، وانتهت إلى أغانٍ تُنشد أمام الملك بيوولف لتشيد بأمجاده، ما وقع منها وما لم يقع. يحل البلاء ثانية، فإله روما لم يُبعد الشياطين عن أرض بيوولف. يُحرق التنين مملكته، ويُحمل أُنفِرث رسالة إليه عن خطايا الآباء. يعرف بيوولف أن الوقت قد حان ليكفر عن خطيئته القديمة. لقد شاخ، لكنه لن يسمح لبطلٍ آخر أن يقتل ابنه، فلم يعد هناك أبطالٌ، وانتحار هروثغار يرفرف فوق رأسه. سينهي المأساة التي بدأها بيده. وسيقتل التنين.
فيلم روبرت زيميكس يغوص في ما وراء الأغنية ليكشف الوجه البشري للأبطال، الخوف، الخذلان، الغواية، الخطيئة. الشر الذي لا ينشأ من أصولٌ شيطانية خالصة، بل إنه في جزء كبيرٍ منه بشريٌ. المشهد الأخير لويغلاف الملك يتطلع إلى أم غريندل والتنين، يتطلع إلى الغواية والخطيئة، يُخبر أن عهد الأبطال والأغاني انتهى، لكن الغواية باقية، والشر باقٍ، الشر الذي يجذب البشر، وبدونهم فإنه يفقد القدرة على البقاء. يجذبهم لا لكونهم شياطين، لكن لكونهم بشراً لازمين له ليكون.
يعتمد فيلم بييولف تقنية قابض الأداء Performance Capture التي قدم زيميكس تجربة سابقة لها من قبل في فيلمه The Polar Express، ويمتاز في تقنيته بشكلٍ يجعل المرء ينسى أحياناً الفكرة المزعجة التي تلح عليه حين يشاهد فيلماً ثلاثي الأبعاد بأنه يشاهد لعبة حاسوبية تتحرك دون إرادته. تميز أنتوني هوبكنز في دور الملك هروثغار، وقدم جون مالكوفيتش أداء هادئاً يعلق في الذهن في دور أُنفِرث. راي وينستون أدى المطلوب منه في دور بيوولف، الشخصية التي تفوق الحياة ذاتها، وأضفى عليه لمسة إنسانية. حضور أنجلينا جولي لدقائق معدودة خلق أثراً امتد على الفيلم بأكمله، في تجسيدٍ مليء بالغواية للشر. بقيت تفاصيل في الفيلم تدل على أنه مُنتج من مُنتجات الفن الرقمي بامتياز، فتجسيد شخصية غريندل جاء مقززاً إلى أبعد حد، بحيث صارت مشاهدته عذاباً، كما أن معركة بيوولف مع الوحوش البحرية ظهرت بشكلٍ يُبالغ في تصوير الطعن والتمزيق وفقء أعين المخلوقات المرسومة بشكلٍ مثير للغثيان عن عمد. أمورٌ كالسعي لتجسيد القبح، والتشوه، وكُل ما هو منفرٌ ومثيرٌ للغثيان أشياء تكاد تكون العلامة الفارقة للفن الرقمي، وتكفي مطالعة معارض موقع مثل CG Society لتأكيد هذا الاتجاه (الجمالي) في الفن الرقمي، وانتصاره في فيلمٍ لمخرج صاحب بصمة مثل روبرت زيميكس إضافة جديدة لشرعنة هذا الاتجاه (الفني). رغم هذا، يحمل فيلم بيوولف قيمة فنية خالصة في سعيه لتعرية بشرية الأبطال، ورثائه لعهد الأغاني الذي قضى على نفسه قبل أن يقضي عليه إله روما.

هناك 3 تعليقات:

  1. تمام يا معلمي

    الفيلم ده جامد جدا ومن أقوى أفلام 2007

    تحياتي :)

    ردحذف
  2. معلش أنا شكلي بعك من الصبح

    هو حضرتك ولد ولا بنت إحم؟

    ردحذف
  3. مرحباً بك أحمد منتصر..
    بيوولف واحدٌ من أقوى أفلام 2007 فعلاً، ومن أكثرها نجاحاً في شباك التذاكر لأسبابٍ عديدة. طبعاً، هو أحد الأفلام الخارجة من موسم الأوسكار بدون ترشيحٍ واحدٍ حتى، مع أنه كان يستحق ترشيحاً للمؤثرات وآخر للموسيقى.
    بالنسبة لسؤالك، فكما تشاء. الأمر لا يُشكل فارقاً. غير أن هُناك تدوينة اسمها: "التاريخ الفاوستي لهند"، ويُصادف أن هنداً في العنوان هي أنا.
    تحياتي القلبية..

    ردحذف