14 نوفمبر 2008

بارانويا شمالَن - 1

(سلسلةٌ مُعدةٌ للنشر الورقي)
البارانويا إحدى ثيمات الرعب الرئيسية. العدو الخفي الذي لا تعرفه الشخصيات ويكيد لها ليوقع بها، العدو الذي لا تُعرف دوافعه، ولا يُعرف شكله أو ماهيته، العدو الذي لا يُريد شيئاً غير الأذى حاضرٌ دائماً في أعمال الرُعب التي تعتمد على الارتياب الشديد الذي يُفضي بالشخصيات أحياناً إلى الجنون. هذا العدو المجهول الموجود في كُل مكانٍ وتحسه الحواس دون أن تدركه سمة أفلام المخرج الهندي الأمريكي الهوليوودي الشهير إم. نايت شمالَن ومفتاحٌ لفهمِ تجربته الفنية.
يقول شمالَن إن أفلامه تجسيدٌ لكوابيسه ومحاولة للتطهر منها، شأنه في ذلك شأن أقرانه من (المرعبين) مخرجين أم كتاباً. غير أنه يختلف عن أقرانه في أنه من المُخرجين (المرضي عنهم) نقدياً باعتباره أحد (المؤلفين) في السينما الأمريكية، بوصفه كاتب أفلامه ومخرجها ومنتجها المُنفذ، بل إنه يظهر في كُل واحدٍ منها لأنه يهوى قراءة اسمه عدة مراتٍ في قائمة صُناع الفيلم، من دون أن يهتم بغرابة شكله وسط طائفة من المُمثلين البيض في قصصٍ عن أناسٍ بيض. شكل شمالَن الهندي غريبٌ في أفلامه اللاحقة غرابة المخلوقات التي احتلت العالم في فيلمه "إشارات"، بل إنه يُضيف إلى خوارقية أجواء أفلامه. لكنه ليس بدعاً بين المخرجين، فطائفة كبيرة منهم تهوى الظهور في أفلامها ولو للمحة عابرة، ويُفسر بعض نقاد السينما هذا الميل بكون هؤلاء المخرجين ممثلين فاشلين يريدون أن يُثبتوا عكس ذلك، أو بميولهم الاستعراضية.
أول ظهورٌ لشمالَن كان في فيلمه الأول "الصلاة بغضب" عام 1992 حين كان تلميذاً في جامعة نيويورك. فيلم شمالَن الأول يخلو من الرُعب، ويتحدث عن تلميذٍ أمريكي من أصل هندي (شمالَن نفسه) يعود إلى بلده الأم الهند في برنامج لتبادل الطُلاب. في البداية يرفض الذهاب إلى الهند، لكنه يحترم رغبة والدته ويعود إلى بلده الأصلي حيث تتعارض ثقافته الغربية مع الثقافة الهندية، ويؤدي به تجاهله لنصائح صديقه الهندي سانجاي إلى مواجهاتٍ عنيفة، ثم يستكشف الهند بعد أن يُحس بروحها بعيداً عن التعالي الغربي، ويكتشف آلهة الهندوس العديدة التي تتقبل الصلوات بأي لغةٍ حتى الغضب. لم يُعرض "الصلاة بغضب" أبداً خارج مهرجانات الأفلام الدولية، لكنه تدريجياً كون له طائفة معجبين وتحول إلى أحد أفلام الطوائف cult films.
بعد فيلمه الأول، تخلى شمالَن عن قصص الهنود ليُقدم في أفلامه اللاحقة قصصاً عن أناسٍ بيضٍ فقط ابتداء من فيلمه الثاني "يقظة تامة"، ولو أنه لم يبدأ بعد سلسلة أفلامه المُرعبة. كالعادة، كتب شمالَن فيلمه الثاني وأخرجه قاصداً أن يُقدم فيه كوميديا مُبكية عن رحلة صبيٍ صغير للبحث عن الله. يدور الفيلم من وجهة نظر صبيٍ عُمره عشر سنوات اسمه جوشوا بيل يدرس في مدرسةٍ كاثوليكية للأولاد - درس فيها شمالَن نفسه -، ويحاول معرفة سبب موت جده الذي يُحبه. جوشوا ليس مقتنعاً بكلام الكِبار عن كون جده في أيدٍ أمينة، ولا يستطيع أن يستوعب فكرة الإله، لذا ينطلق في رحلة بحثٍ عنه يُساعده فيها صديقه الحميم ديف الذي يُصاب بالصرع لاحقاً، ومُعلمته في الصف الخامس الراهبة التي تُحب البيسبول. أُنجز الفيلم في 1995، لكنه لم يُعرض حتى 1998، ولم يُحقق أي نجاحٍ تجاري. يُحسب للفيلم أنه الفيلم الوحيد - حتى الساعة - الذي لم يظهر فيه شمالَن. ترافق "يقظة تامة" مع كتابته لسيناريو فيلم "ستيوارت ليتل" الذي يحكي عن محاولة فأرٍ التأقلم مع عالمٍ كبيرٍ يكرهه لأنه صغيرٌ ومختلف.
مع فيلمه "الحاسة السادسة" صار شمالَن مُخرجاً شهيراً، وعُرف على نطاقٍ واسع. كما أنه صار مُخرج رعبٍ يحوز على رضا النقاد الذي لا يحصل عليه مُخرجو الرُعب عادة. في فيلم "الحاسة السادسة" يُرسي شمالَن قواعد البارانويا التي سيسير عليها في أفلامه اللاحقة، والوحدات التي تتركب منها حبكة كُل أفلامه اللاحقة، ففي كُل أفلامه ينبغي أن يكون هُناك طفلٌ - أو اثنان - يرى ما لا يراه الكبار ويدرك الحقائق قبل أن يدركوها، ويكون مصدراً للتوتر ولتعاطف المشاهدين. وأن تكون هُناك شخصياتٌ بالغة عالقة في الماضي، وتلوم نفسها على مشكلاتٍ مختلفة لها علاقة بزيجات مُنهارة وإيمان مفقود، وفي النهاية تجد هذه الشخصيات السلام والطمأنينة. يجب أن توجد أبوابٌ مغلقةٌ وجدران ليدق عليها العدو المجهول. ويجب أن تدور الأحداث في فيلادلفيا، ويكون الأبطال من البيض. (لا يُعد سامويل إل. جاكسون الذي قام بدور إلايجا في فيلم "الذي لا يُقهر" استثناء للأبطال البيض، فإلايجا "الأسود" شرير الفيلم). يجب أن تكون النهاية مُلتوية قليلاً، ويجب أن يظهر شمالَن في الفيلم. مما يُشكل هيكلاً يملأه شمالَن حسب موضوع الفيلم، ويحدُ من تنوع الرؤية الإخراجية كما في فيلميه الأولين. هذه الصيغة الإخراجية مُعادلة سحرية للنجاح شبيهة بمعادلة دان براون في رواياته المشوقة، لكنها - ككل مُعادلة سحرية - فقدت سحرها مع فيلمه الأخير "الحدث" الذي أبغضه النقاد ووصفوه بأنه "شاهدٌ على سقوط مخرج كبير"، كما أبغضه الجمهور ولم يُعطه الشعبية التي أعطاها لأفلام شمالَن السابقة.
أحدث "الحاسة السادسة" ضجة عند عرضه، وتحول إلى ظاهرة عالمية وضعت شمالَن في الصف الأول بين مخرجي العالم. كما أنه أعاد الاعتبار لبروس ويليس الذي اعتبره النقاد غير قادرٍ على أداء أدوارٍ غير الشرطي العنيف وبطل أفلام الآكشن، وقدم هايلي جول أوزمنت الطفل الموهوب الذي حمل الفيلم بشكلٍ استحق معه ترشيحه لجائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد. رُشح الفيلم لست جوائز أوسكارٍ لم ينل أياً منها. وكان مانفستو شمالَن الذي أعلن فيه عن رؤيته الفنية، والعناصر التي ستشكل بقية أفلامه: الارتياب، النهايات الملتوية، الأطفال، وظهوره في الفيلم.
كذلك، أعلن "الحاسة السادسة" عن اهتمامات شمالَن ومنهجه في العمل، فغالباً ما يستقي إلهام أفلامه من حالاتٍ طبية - نفسية وجسدية - كالهلوسة (الحاسة السادسة) ورقة العظام (الذي لا يُقهر)، أو من مواضيع شغلت الرأي العام الأمريكي لفترة كالطوائف المنعزلة في مُجتمعات مُغلقة (القرية)، أو من ألغازٍ علمية صغيرة كدوائر حقول الذرة (الإشارات) واختفاء النحل غير المُبرر أو التأثير الأخضر (الحدث). كذلك، يُقدم شمالَن أفلامه كمخططات على أعمالٍ سابقة، ففيلم "الحاسة السادسة" مُستلهم من حلقة من مسلسل "هل تخاف الظلام؟" الذي يُبث على قناة نكلوديون، وفيلم "القرية" مُستوحى من أجواء رواية مرتفعات ويذرنغ، ويدور فيلم "الذي لا يُقهر" في أجواء سلاسل الرسوم الهزلية الأمريكية.

هناك تعليقان (2):

  1. H.M.H

    مقالة رائعة.
    وتحليل ممتاز لشخصية شمالن التي انعكست علي أفلامه.

    شاهدت العلامات والذي لا يقهر والحاسة السادسة.

    أعجبني الأخير جدا وهذا طبيعي أما الثاني أحسست أنه هزلي نوع ما وذلك يرجع لأصل القصة وان كانت النهاية أعجبتني.
    أما الأول فهو جيد وتعجبت من فترات الصمت الكثيرة في الفيلم وكأن السيناريو كان بعض الصفحات لا أكثر ولا أقل!!

    تقبلي مروري
    أسامة

    ردحذف
  2. أسامة..

    مرحباً بك، وأشكرك جزيل الشكر على إطرائك الرقيق.

    الحاسة السادسة فيلمٌ واسع الشعبية فعلاً، تحول إلى أيقونة ثقافية فيما بعد. رُبما يكون أهم مقترباته كونه أول طرح لثيمات شمالن اللاحقة.
    الذي لا يُقهر فيلمٌ هزلي إلى حدٍ كبير، ويكاد لا ينجح في إقناع أحد إلا المجانين مثل إلايجا. مع ذلك، هُناك ثيمة هامة في الفيلم هي التناقض المُطلق بين الذي لا ينكسر، وسهل الكسر - والتي أضاف إليها شمالن ثنائيات أخرى مثل الأبيض والأسود، وهي ثنائية لم تضف عمقاً للفيلم -.
    فترات الصمت الكبيرة في فيلم العلامات جاءت لتُعمق جو الفيلم الذي يوحي بنهاية العالم واقتراب القيامة. في الفيلم جوٌ ديني مُهيمن يتحدث عن البشارة والخلاص والفداء. الأمُ افتدت أبناءها بموتها المأساوي، وجاءت تنبؤاتها لُتنقذ أبناءها: "قُل لغراهام أن ينظر، ولميريل أن يضرب بقوة". غريبٌ أن الفيلم لم يُعجب النُقاد، مع أنه تجربة مميزة عن الغربة الروحية والإيمان والعائلة والفداء، بالإضافة إلى قدرٍ كبير من رُهاب الغرباء الذين يرمزون هُنا إلى أقدارٍ لا قبل للإنسان بها.

    تحياتي..

    ردحذف