16 نوفمبر 2008

بارانويا شمالَن - 2



الذي لا يُقهر
يُحاول شمالَن إضفاء العُمق على موضوعاته مهما كانت، فيُشير إلى كون أنماط الشخصيات في سلاسل الرسوم الهزلية مستلهمة من كائنات فائقة سكنت الأرض في أزمنة سحيقة وحافظت على توازنها، التوازن الذي يقع في أقصى طرفيه "الذي لا ينكسر" (البطل) و"سهل الانكسار" (الشرير)، الأبيض (البطل) والأسود (الشرير). كما أنه يختم عمله الثاني في سلسلة أفلامه الخوارقية "الذي لا يُقهر" بتفسير شبه منطقي للأحداث بوصف إلايجا إرهابياً مجنوناً يقتل الناس ليُثبت نظريته عن الطرف الآخر المقابل له، مع أنه من الصعب أن يقوم إلايجا بتدبير كُل هذا بينما لا يستطيع مغادرة كُرسيه المتحرك إلا ليعود إليه، ولا يملك أي صلاتٍ قد تُسهل له تنفيذ مآربه.
كالعادة، زواج حارس الأمن ديفد دن (بروس ويليس) منهار، وابنه يُصدق أنه بطلٌ خارق لا يُقهر قبل أن يصدق هو ذلك، فالأطفال أكثر تقبلاً للخوارق من الكبار، ولأجل ابنه فإن ديفد دن يُقرر (تحقيق قدره) والتحول إلى بطلٍ خارق يُحارب الجريمة، ويُنزل الهزيمة بالأشرار. ككُل الأبطال الخارقين، لدن نقطة ضعفٍ واحدة، الماء، فهو لا يُجيد السباحة، ويكاد يخسر ابنه لهذا السبب. كما هي العادة، يستعيد دن عائلته ويجمع شتات حياته المُبعثرة.
رغم أن فيلم "الذي لا يُقهر" ليس فيلم رُعب، بل فيلماً عن ظواهر خارقة، إلا أن شمالَن لا يتخلى فيه عن لعبته المفضلة، الأبواب الخادعة والإضاءة الخادعة ليُوحي للمشاهدين بوجود شيء مُرعبٍ في هذا الجو الخوارقي، شيء أكثر من مجرد الغرابة المثيرة للقشعريرة التي تُعمقها ألوان الفيلم المُنتقاة لتعكس صورة عميقة كثيرة الظلال عن حياةٍ تكاد تخلو من النور.
الإشارات
شمالَن مُخرج أفلام خوارق أثبت علو كعبه في فيلمين من أفلامها، واحدٍ عن الأشباح والآخر عن الأبطال الخارقين، فلماذا لا يُجرب مجالاً آخر للخوارق؟ الخيال العلمي يوفر فرصة لا مثيل لها لكُل مخرجي الخوارق الراغبين في تقديم أفلام رُعبٍ تحبس المُشاهد في دائرة بارانويا قاتلة، فالأعداء موجودون، لكننا لا نعرف شيئاً عن نواياهم، وهم عدائيون تجاهنا مع أننا لا نعرفهم. هؤلاء الأعداء قادمون من الفضاء في مُهمة عدوانية لأخذ كُل ما هو لنا، في ثيمة كان إتش. جي. ويلز أول من تعامل معها في روايته "حرب العوالم" التي حولها ستيفن سبيبلرغ فيما بعد إلى فيلم في 2005.
القصة الرئيسية عن قسيس يتخلى عن إيمانه بعد موت زوجته بطريقة مُروعة محشورة بين شاحنة وشجرة. موت الزوجة المأساوي قلب القسيس ضد إيمانه فتخلى عن أبرشيته وتفرغ لمزرعة الذُرة الخاصة به، وللعناية بولديه وأخيه الأصغر الذي كان يُبشر بلاعب بيسبول متميز لولا أنه يُلوح بمضربه أكثر مما ينبغي. ابنه الأكبر يُعاني من الربو، وابنته الصغرى ترى أخاها ميتاً. في مزرعته تظهر دوائر هائلة وسط نباتات الذُرة، يرى ولداه أنها إشارات من مخلوقاتٍ فضائية تُحاول رسم خرائط جوية لمُساعدة رفاقها على الوصول إلى الأرض بسلام. ولداه مقتنعان بأن المخلوقات موجودة في منزلهم بالذات، وشيئاً فشيئاً يقتنع أخوه بذلك، لكنه يرفض الاقتناع بوجودها حتى يتأكد من ذلك عندما يُقابل أحدها في منزل راي ريدي (شمالَن) الذي صدم زوجته بشاحنته وقتلها، فيُصبح عليه أن يحمي أولاده من خطر هذه المخلوقات العدائية التي تحتل الأرض وتنقل إشارتها الأرضية إلى السماء. تُحاصرهم المخلوقات في العلية، حيث يستمتع شمالَن باستعراضٍ لتقنية البارانويا المفضلة عنده: الطرق على الأبواب والجُدران. فالمخلوقات تُحاصرهم من كُل مكان، وتدق كُل الأبواب والجُدران مُصرة على تحطيمها، بل إن يد أحدها تدخل لتلمس الولد الصغير الذي يُصاب بأزمة ربو حادة نتيجة للرُعب والصدمة.
ينتهي هجوم المخلوقات في النهار فقد هُزمت المخلوقات. يبتهج القسيس وأسرته، وبينما يُجهز التلفاز ليُشغله ويعرف الجميع كيف هُزمت المخلوقات، تظهر صورة أحد المخلوقات منعكسة على شاشة التلفاز المُطفأ (تقنية بارانويا أخرى مفضلة). هذا آخر مخلوقٍ بقي لينتقم من القسيس الذي جرحه في منزل ريدي. حينها يتذكر القسيس آخر ما قالته زوجته: "قُل لغراهام [القسيس] أن ينظر، ولميريل [الأخ الأصغر] أن يضرب بقوة". فيطلب منه أن يضرب المخلوق بمضربه بقوة، لينتهي الفيلم بغراهام وقد استعاد إيمانه وعاد إلى أبرشيته قسيساً.
في الفيلم ثيمتان متشابكتان، الإيمان والبارانويا. كُل شيء إشارة من الخالق ضمن خُطة أكبر، وهُم موجودون بيننا، في بيوتنا ذاتها، في أقبيتنا، يُريدون تدميرنا، يكرهوننا. مع كمية هائلة من الحوارات ذات الصبغة الدينية، وألعاب دق الأبواب والنوافذ.
القرية
يخرج فيلم القرية عن سلسلة أفلام شمالَن الخوارقية بكونه الفيلم الوحيد له بإيحاء أدبي، ويُشابه فيلم "الذي لا يُقهر" في وجود تفسيرٍ شبه منطقي لكُل أحداثه آخر الأمر. قصة الفيلم تدور حول قرية تفصلها عن الحضارة غابة تملؤها وحوشٌ مريعة مجهولة. وحوشٌ تقتحم القرية من حينٍ لآخر، وتطرق أبواب السكان المُختبئين كالعادة - فكُلما زاد الطرق زاد توتر المشاهدين -. القرية فاضلة، وتنقسم إلى جيلين: الآباء والأبناء. الآباء وُلدوا في الخارج ثُم شكلوا القرية بإرادتهم، بينما وُلِد الأبناء في القرية ورُبوا على الفضيلة المحضة. مع ذلك تدخل الخطيئة القرية عندما يُحاول نواه أبله القرية قتل خطيب الفتاة العمياء التي يُحبها. جروح المُصاب فوق طاقة القرية على علاجه، لذلك ينبغي أن يُرسَلَ أحدٌ لجلب دواء له من المدينة. الموفد إلى الخارج ينبغي أن يمر في غابة الوحوش، وليس سوى الفتاة العمياء ابنة كبير القرية وخطيبة المُصاب.
تنكشف الخُدعة. لا توجد وحوشٌ في الغابة. الوحوش اختراعٌ من كبار القرية ليقطعوا صلة الجيل الجديد بالعالم الخارجي الكبير. العالم الكبير شرير ومليء بالرذيلة، ووحدها الفتاة العمياء ستخرج إليه لأنها لن تراه. تخرج الفتاة العمياء عابرة الغابة، وفي الغابة تجد وحوشاً - رغم أن الكبار يعترفون بتلفيق القصة، إلا أن المُخرج يُبقى على احتمالية وجودها قائمة -، وعندما تصل تكتشف أن الحكومة تعرف بوجود القرية، وأنها تمنع الطيران من التحليق فوقها لئلا ينتبه الجيل الجديد فيها إلى وجود المدنية الحديثة. الحكومة كذلك تتآمر علينا لتبقينا مُحاصرين في القرية الغافلة! لكن، لا الحكومة، ولا تعاليم الكبار، ولا المُجتمع المُتطهر يستطيع أن يمنع الخطيئة من الظهور، ويستطيع أن يمنع الشر من دخول القرية الفاضلة التي تستمر في البقاء على حافة الأكاذيب.
يوسع شمالَن في هذا الفيلم دائرة الارتياب، فمصدر الارتياب لم يعد الخطر الخارجي غير المعروف الذي مثلته الأشباح والمخلوقات الفضائية في أفلامه السابقة، بل تعداه إلى الأهل الذين يتآمرون لإخفاء الحقيقة على أبنائهم، ولحبسهم في دائرة الخوف والجهل، والحكومة التي تتآمر معهم لحماية مُجتمعٍ يفترض في نفسه الفضيلة لكنه لم يقم إلا على الأكاذيب والخداع. الكُل في هذا الفيلم العدو، والشخص الوحيد الذي نجح في الخروج عاد وكأنه لم يرحل، لأنه خرج أعمى، وعاد أعمى. يوحي الفيلم بمؤامرة بين الأهل والمخلوقات الحقيقية في كثيرٍ من المشاهد، خاصة حين تمد الفتاة العمياء يدها في الظلام منتظرة أن تمسك يد خطيبها لكنها تكاد تُمسك يد أحد المخلوقات.

هناك تعليقان (2):

  1. H.M.M

    الذي لايقهر أعجبتني النهاية فقط وأنا بالفعل أكره طريقة تمثيل صامؤيل جاكسون.

    وتكرار الطفل الذي يعلم ما لم يعلمه الأخرون وان كان بارع جدا في تقديمها.
    وخاصة في فيلم الحاسة السادسة.

    اما عن القرية فلم اشاهده.
    سأبحث عنه ان شاء الله.

    تحياتي
    أسامة

    ردحذف
  2. أسامة..

    لا أكن أي اعتبارٍ لصامويل إل جاكسون كممثل مُذ شارك في الفيلم الدعائي السيء قواعد الاشتباك.
    رُبما لم يكن الطفل يعرف كُل شيء في الحاسة السادسة، هو يرى الأشياء، لكنه لا يملك اليقين الحاسم الذي يُشاهد في فيلم الذي لا يُقهر، وكذلك في العلامات.
    فيلم القرية من أكثر أفلام شمالن عُمقاً وتميزاً. أتمنى أن تشاطرني رأيك فيه بعد أن تشاهده.

    تحياتي..

    ردحذف